هل يختلف الحساب حسب عمر الانسان في الدنيا ؟
أشارت نصوص الشرع إلى أن مدة التعمير في هذه الدنيا لها أثر في الحساب والعقاب ؛ ومن ذلك :
عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ) رواه الترمذي وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
ويزيد هذا المعنى وضوحا حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ ، حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً ) رواه البخاري .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى :
" قوله : ( أعذر الله ) الإعذار إزالة العذر ، والمعنى : أنه لم يبق له اعتذار ، كأن يقول : لو مُدَّ لي في الأجل لفعلت ما أمرت به ، يقال : "أعذر إليه" إذا بلَّغه أقصى الغاية في العذر ومكَّنه منه " انتهى من" فتح الباري " .
وقال الله تعالى : ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) فاطر /37 .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) أي : أوما عشتم في الدنيا أعمارا ؛ لو كنتم ممن ينتفع بالحق ، لانتفعتم به في مدة عمركم ؟
وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد هاهنا ، فروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال: مقدار سبع عشرة سنة .
وقال قتادة : اعلموا أن طول العمر حجة ، فنعوذ بالله أن نُعَيَّر بطول العمر ، قد نزلت هذه الآية: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) ، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة .
عن ابن عباس قال : العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله : ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) ستون سنة .
فهذه الرواية أصح عن ابن عباس ، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضا " .
انتهى من " تفسير ابن كثير " .
وجعل الله تعالى إطالة عمر الكافر وإمهاله في هذه الدنيا سببا لزيادة العقاب عليه ؛ حيث قال الله تعالى :( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) آل عمران /178 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
" قال : ( إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) : فالله تعالى يملي للظالم ، حتى يزداد طغيانه ، ويترادف كفرانه ، حتى إذا أخذه أخذ عزيز مقتدر ، فليحذر الظالمون من الإمهال ، ولا يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال " انتهى من " تفسير السعدي " .
وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
" ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يملي للكافرين ، ويمهلهم لزيادة الإثم عليهم ، وشدة العذاب . وبين في موضع آخر أنه لا يمهلهم متنعمين هذا الإمهال إلا بعد أن يبتليهم بالبأساء والضراء ، فإذا لم يتضرعوا أفاض عليهم النعم وأمهلهم حتى يأخذهم بغتة ..." .
والحاصل :
أن تأثير طول العمر في حساب العبد ، وميزان أعماله : إنما يكون باعتبارين :
الأول :
أن العمر الطويل : حجة من حجج الله على عباده ، فلا يقدر صاحبه أن يطلب مهلة العمر ، وطول الزمان الذي يعينه على العمل الصالح ؛ فلقد كان ذلك كله ، وأمكنته الفرصة ليعتبر ، ويتعظ ، وينتهي عن غيه ، ويعود إلى ربه ؛ فلم يفعل ، وأضاع الفرصة والزمان ، حتى عاد ذلك كله حسرات عليه .
الثاني :
أن هذا العمر والزمان الطويل ، هو وعاء لعمله ؛ فإما ملأه بصالح العمل ، وإما ملأه بالتفريط ، والتضييع ، وسيء الأخلاق والأعمال ؛ ولذلك لا تزول قدمه يوم القيامة ، حتى يسأل عن ذلك الوعاء : بأي شيء ملأه .
ولا يتصور أن يكون حساب العبد يوم القيامة على مجرد الزمان ، من غير عمل ، فإن ذلك الزمان لا ينقضي على العبد من غير أن يعمل عملا ، يقدمه ، أو يفرط تفريطا يؤخره عن ربه ، وهكذا العمل ، خيره وشره ، لا بد له من زمان ، وعمر يقع فيه .
ولهذا قال الله تعالى لعباده : ( كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) المدثر/32-37 .
قال ابن القيم رحمه الله :
" إضاعة الوقت الصحيح ، يدعو إلى درك النقيصة ، إذ صاحب حفظه مترق على درجات الكمال ؛ فإذا أضاعه ، لم يقف موضعه ؛ بل ينزل إلى درجات من النقص !!
فإن لم يكن في تقدم ، فهو متأخر ؛ ولا بد !!
فالعبد سائر ، لا واقف ؛ فإما إلى فوق، وإما إلى أسفل . إما إلى أمام وإما إلى وراء .
وليس في الطبيعة ، ولا في الشريعة ، وقوف البتة ؛ ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي ، إلى الجنة أو النار ؛ فمسرع ومبطئ ، ومتقدم ومتأخر .
وليس في الطريق واقف البتة ؛ وإنما يتخالفون في جهة المسير، وفي السرعة والبطء : ( إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) ولم يذكر واقفا ؛ إذ لا منزل بين الجنة والنار، ولا طريق لسالك إلى غير الدارين البتة ، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة ، فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة " انتهى من "مدراج السالكين" .
ومن هنا كان يوم القيامة : يوم التغابن ، وكان يوم الحسرة ، حسرة من ضيع عمره ، في غير طاعة الله ، وقد أخذ الفرصة ، وأعطي المُهْلة ؛ فضاعت الأعمار ، وانقطعت الأعذار !!