د. رشا سمير نحن والآخرون..

مقالات الرأي


فى الأسبوع الماضى قادتنى الأقدار إلى أحد المقاهى بمنطقة مدينة نصر، حيث كنت أنتظر ابنتى فى أقرب مكان لتنتهى من درسها، فأعود لاصطحابها..

لاحظت عقب دخولى أن هناك همهمة حدثت فى المكان، لكننى لم أهتم.. تقدم إلىَّ شاب مُلتحٍ يعمل ساقيا فى المقهى، رحب بى وفى عينيه نظرة استغراب لم أفهمها فى وقتها، تقدمت إلى طاولة لأجلس عليها، فإذا به يمنعنى بمنتهى الأدب قائلا:

«أعتذر..هناك مكان خاص بالسيدات»..

وقعت كلماته علىّ كالصاعقة التى جعلتنى أنظر حولى جيدا فإذا بى أجد كل الجالسين ذوى لُحى طويلة، وعلى وجههم نظرة استنفار.. نظرت إليه وقلت بشىء من المُداعبة:

«أعتقدت أننى دخلت مقر حزب الحرية والعدالة بالمقطم».

لم يفهم الشاب المزحة، ولكنه قال بكل جدية:

«لا يافندم.. نحن سلفيون».

هكذا لم يكن أمامى خيار سوى الدخول بعد أن سألته إن كان وجودى سوف يبعث بالضيق فى نفوسهم، ولكنه نفى بكل أدب.. لاحظت أنهم يذيعون أغانى سامى يوسف، وشاشات التليفزيون تبث أغنيات مصورة ملتحٍ وفتيات متنقبات لا أعرفهم..

دخلت الجزء «الحريمى» الذى كانت تجلس فيه مجموعة فتيات مُحجبات وسيدة واحدة متنقبة.. ما أثار انتباهى حقا، هو جلوس الرجال المتزوجين ونساؤهم فى الجزء الخاص بالشباب الأعزب! وكأن هؤلاء الشباب مسموح لهم برؤية المتزوجات فقط من نساء المؤمنين..

شعرت بالغضب، وشعرت كأننى عدت إلى أيام العصور الوسطى، شعرت بأننى لم أعد فى مصر، وكأننى ركبت آلة الزمان وطلبت منها زيارة السعودية فى العقود الوهابية الأولى..

سألنى الشاب عقب دفعى فاتورة الحساب بكل لطف:

-«ما رأى حضرتك فى هذه التجربة؟»... قلت دون أن أفكر:

-«تجربة لا أفهمها، وكنت أتمنى ألا أراها فى مصر لأنها تجربة فاشلة، ففصل الرجال عن النساء لا يخلق الفضيلة فى المجتمعات بل على العكس يقتلها، حيث دائما الممنوع هو المرغوب».

انصرفت وأنا على يقين من أنه لم يستوعب كلامى، شعرت بإحباط لم أفهمه، واستياء بلا مبرر وخصوصا أن العاملين بالمكان كانوا على قدر عالٍ من الأدب.

اجتاحتنى فكرة وأنا أقود سيارتى، وتساءلت فى نفسى: لماذا لا نستطيع فى مجتمعنا المصرى تقبل فكرة الآخر؟..

لماذا لا نتقبل فكرة أن يكون للمتشددين دينيا مقهى، خصوصا وهم يُصرون على الانزواء فى مجتمع لا يجدون لأنفسهم فيه مكانا..فالاختلاط مبدأ لا يناسبهم والتوحد الفكرى هو المذهب الوحيد الذى يسكن عقائدهم.

إن المجتمعات الأوروبية قادرة على تقبل الآخرين، فهم دائما قادرون على استيعاب الاختلاف والتأقلم عليه.. ففى أمريكا مثلا، اعتناق كل الأديان مُباح من اليهودية وحتى البوذية، بل ويعيشون فى حالة من الوئام المجتمعى بلا تحرش لفظى ولا مهاترات معنوية.. ومصر فى وقت من الأوقات، كانت تعيش فى حالة مُماثلة، حيث كان المسلم والمسيحى واليهودى يقطنون منزلا واحدا ويحتفلون بالأعياد بنفس الحماس تحت مسمى واحد.. هو الوطن..

كانت السيدات تخرج بملابس قصيرة ولم نسمع عن حالة تحرش واحدة، كانت الأماكن العامة مكانا لاختلاط النساء بالرجال تحت لواء الصداقة والأخوة، فكان غض البصر عقيدة وليس فريضة.. كانت مصر وطنًا حرًا ومجتمعًا سويًِا قادرًا على احتضان أبنائه جميعا على حد السواء.

لا أتصور أو أستوعب قصة المُدرسة المتنقبة بمدرسة الأقصر التى قامت بقص شعر الفتاتين اللتين رفضتا إرتداء الحجاب، والأغرب هو رد فعلها ورفضها الذهاب إلى أسرة الفتاتين للاعتذار لهما فى منزلهما.. إنها لا ترى أنها إرتكبت خطأ، ولكنها قررت مُعاقبة الآخر، والحجر غير المباشر على الرأى المُخالف لرأيها..

هذا بكل أسف هو المبدأ الذى تتعامل به الجماعات الدينية فى مصر.. إن لم تكن معى فأنت ضدى.. لقد انشق المجتمع إلى شطرين، شطر يطالب بالشريعة كما يراها، وشطر يحارب من أجل عقائده كما تعود أن يعتنقها..

كلاهما مُخطئ.. وجميعُنا مُخطئون..أنا وقت أن استنكرت وجود المقهى الإسلامى مُخطئة.. وهم وقتما استنكروا أن يكون هناك مُجتمع مُختلط فيه نساء بلا حجاب ورجال بلا لُحى مخطئون.. والمجتمع يوم تجاهل وجود رأى ورأى آخر مُخطئ.. ومصر لن تنهض إلا باحتضان الجميع مهما اختلفت عقائدهم..

ودعونا نتذكر دوما أن مصر وطن يتسع لنا ولهم دون استبداد ولا تعصب ولا رجعية...

وكل عام وأنتم بخير.. نحن وأنتم..