عبد الحفيظ سعد يكتب: حكمت المحكمة.. يد العدالة مغلولة عن مرتزقة الفساد

مقالات الرأي



■ كيف أفلت محمد فودة من السجن فى قضية رشوة وزارة الزراعة؟

■ جنايات قصر النيل: إعفاء الوسيط أصبح رخصة ووقاية لطبقة جديدة من المجرمين فى إفساد الموظفين العموميين كبيرهم وصغيرهم

غابت عن القاهرة والمدن المصرية الزينة والبهجة الاثنين الماضى، رغم أن الحدث غير عادى.. أسطورة الألعاب الخلفية وصاحب التاريخ اللامع فى قضايا الرشوة والفساد «محمد فودة»، حصل على حكم من محكمة جنايات قصر النيل بإعفائه من عقوبة السجن فى قضية الرشوة المعروفة برشوة وزارة الزراعة. وبذلك عاد الرجل صاحب الألقاب المتعددة والعلاقات الممتدة فى الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية إلى الملاعب ثانية بعد أن أمضى 4 أشهر رهن التحقيقات فى القضية.

أفلت محمد فودة «الوسيط»، بينما أدين المرتشى ووزير الزراعة صلاح هلال، ومعه مدير مكتبه محيى الدين قدح بالسجن لمدة عشر سنوات.

وصحيح كما اعتدنا أن نردد أن الحكم عنوان الحقيقة، لكن فى تلك القضية، طمس العنوان وبهتت الحقيقة.. وأفلت محمد فودة البطل الحقيقى للقصة وصاحب القعدة الشهيرة فى الفنادق الفاخرة من العقوبة، ليس لتقصير فى محراب العدالة بقدر ما هو لعبة القانون التى قيدت يد القاضى فى أن يصدر حكمه ضد فودة، والذى يعد مسجلا فى مثل هذه النوعية من القضايا بعد أن سبق اتهامه وإدانته فى قضية مشابهة عام 1997، وضبط وقتها متلبسا فى قضية رشوة مقدمه للمستشار ماهر الجندى محافظ الجيزة الأسبق، من رجل الأعمال عمرو حليقة، وذلك لإنهاء إجراءات تخصيص 130 فدانًا بطريق مصر إسكندرية الصحراوى.. ووجهت له النيابة تهمة أخرى فى قضية ماهر الجندى، وهى استغلال النفوذ والكسب غير المشروع خلال سنوات عمله بوزارة الثقافة أثناء عمله فى مكتب الوزير الفنان فاروق حسنى.. فى قضية ماهر الجندى سجن «فودة» لمدة 5 سنوات مع محافظ الجيزة، خاصة أن وقت عمله كان موظفا عاماً، مما أوقع عليه العقوبة فى حينها.

لكن فى قضية رشوة وزارة الزراعة التى قدم فيها «فودة» كوسيط فى التهمة، أفلت من العقوبة مستغلا «ثغرة» فى القضية الجديدة، تعلق بالمادة «107» من قانون العقوبات والتى تعفى الراشى والوسيط من العقوبة فى حالة إبلاغه لسلطات التحقيق عن واقعة الرشوة أو تقديمه بيانات تفيد القضية.

لكن فى القضية الأخيرة والخاصة بفساد وزارة الزراعة، ورغم سابقة تسجيل «فودة» وإدانته فى واقعة ماهر الجندى، إلا أنه بعد أن أمضى العقوبة عاد للمشهد مرة أخرى.. وظهر فى «لوك» جديد فى عالم البيزنس وقدم نفسه كإعلامى وسياسى، أعد نفسه لخوض الانتخابات البرلمانية ليكون ممثلا للأمة..

خرج فودة من عباءة الموظف العام بعد خروجه من السجن، ولم تعد أعماله وتصرفاته تخضع للرقابة والمساءلة، بعد أن تحول فى شكله الجديد لشخصية، ولم تمنعه سمعته السابقة فى الصعود كوجهة إعلامية وسياسية، بعد أن كون شبكة للعلاقات التحتية التى جمعت بين إعلاميين ومسئولين ورجال أعمال.

الغريب أن الواقع الجديد الذى فرضه «فودة» لنفسه، لم يكن خفيا على محكمة جنايات قصر النيل برئاسة المستشار أسامة الرشيدى، فرغم أنها أعفت المتهم «فودة» من العقوبة، إلا أن المحكمة ذكرت فى أسباب الحكم ما نصه: «إنها وإن كانت تقدر دوافع المشرّع إلى منح كل من الراشى والوسيط، الإعفاء المقرر بالمادة 107 من قانون العقوبات، للمساعدة فى إقامة الدليل على الموظف العام الجانى فى جريمة الرشوة، التى يتسم ارتكابها بسرية وكتمان بالغين، إلا أنه وبعد أن كان جليًا فى السنوات الأخيرة، أن الإعفاء أصبح بمثابة رخصة ووقاية لطبقة جديدة من المجرمين، ممن امتهنوا إفساد الموظفين العموميين كبيرهم وصغيرهم، فاحترفوا جريمة الوساطة فى الرشوة، وهم على يقين بأنهم سيفلتون من العقاب، وطوق النجاة لهم مهما ارتكبوا من آثام، بالاحتماء بالمادة 107 والاعتراف بالجرم.

واستمرت المحكمة فى سرد أسبابها والدعوة لوضع حد لاستفادة المجرمين من الإعفاء فى قضايا الرشوة قائلة: «إن الاعتراف ليس فضيلة بالنسبة لهم، ولا إقرارًا بذنب أو تحقيقًا للعدالة أو مصلحة عامة، ولكنه جزء من مخططهم الخبيث الذى رسموه سلفًا، لارتكاب جريمتهم، فهم إن نجحوا فى ارتكابها فقد حققوا ما أرادوا، أما إن فضحوا وطالتهم يد العدالة فليس أهون عليهم من التضحية بشركائهم فى الجريمة، والاعتراف بها طلبًا للنجاة».

ولم تتوقف المحكمة عند هذا الحد الذى يثبت أن القانون غل يدها فى توقيع عقوبة على الوسيط فى الرشوة، بل دعت المحكمة المشرع لإعادة النظر فى المادة «107»، وإحاطة هذه الميزة التى منحها للراشى والوسيط فى حالة الاعتراف بالجريمة، بمزيد من الضوابط والقيود، التى لا تجعل هؤلاء بمأمن تمامًا من العقاب بمحض إرادتهم، لمنع خلق طبقة من المرتزقة الذين يحترفون إفساد الموظفين العموميين، لتحقيق مآرب شخصية ومكاسب مادية.

ما ذهبت إليه المحكمة التى يظهر من منطوق حكمها، أن لديها عقيدة أنه كان يجب توقيع عقوبة على المتهمين والوسيط فى قضية الرشوة، إلا أن نص القانون غل يدها، وهو ما أكد عليه الفقيه القانونى عصام الإسلامبولى، غير أنه، يشير إلى أنه فى قضية محمد فودة كان يمكن للمحكمة أن تصدر حكمها ضده بتهمة تسهيل الرشوة على أساس أن فودة له سوابق بعد أن سبق إدانته فى واقعة مشابهة، ما يعنى أنه «متمرس» فى مثل هذه القضايا، وربما كان دافعه الوحيد فى الاعتراف بالتهمة أن يجد لنفسه حيلة أو ثغرة للإفلات من العقوبة.

ويشير الإسلامبولى إلى أنه فى واقعة فودة، يمكن القياس عليها فيما يخص فى العقوبة التى يتم إيقاف تنفيذها والتى يرتبط تنفيذ الحكم فيها بحال عودة المتهم لارتكاب نفس الجرم مرة أخرى مما يوجب توقيع العقوبة عليه.

واستند الإسلامبولى فى ذلك إلى أن الغاية القانونية من إعفاء المتهم (الوسيط والراشى) فى قضية الرشوة، أن يحفزهم على كشف الحقائق والكشف عن الجريمة التى ترتكب عن طريق الموظف العام أو صاحب السلطة، لكن فى حال «فودة»، نجد أن تكرار قيامه بالعمل نفسه يدل على احترافيته، وأن اعترافه كان الغرض منه التحايل على القانون للإفلات من العقوبة، وبالتالى لا يستفيد من الإعفاء.

لكن الفقيه القانونى عصام الاسلامبولى، اتفق مع ما ورد فى حكم المحكمة بضرورة وجود تعديل تشريعى، يضع حدا لعدم إفلات «المرتزقة الذين يحترفون إفساد الموظفين العموميين»، طبقا لما ورد فى حكم محكمة جنايات قصر النيل، وأن يتضمن التعديل نصا واضحا للحالات التى يعفى منها الوسيط أو الراشى من العقوبة، مثل أنه سبق فى الإبلاغ، وأن يكون سجله نظيفاً ولم يسبق اتهامه فى مثل هذه القضايا التى تخص ذمته المالية، وأن يكون اعترافه والمعلومات التى يقدمها لجهات التحقيق ساهمت بالفعل فى كشف الجريمة قبل وقوعها أو أثناء حدوثها، حتى لا تتحول نص مادة الإعفاء إلى ورقة يستغلها المرتزقة، ويعودن بوجهة أخرى.

لكن يبدو أنه فى حالة فودة الأمر لا يحتاج لمجرد تعديل قانونى أو حتى حكم قضائى، بل لا بد من عدالة مجتمع وحالة شفافية، تدفع لكشف هؤلاء الذين كانت لعبتهم الفساد والعيش فى الدهاليز الخلفية ، فـ«فودة» لم يمنعه الحكم السابق ضده من 20 عاما من العودة مرة أخرى، بل كان على أعتاب دخول البرلمان ممثلاً للأمة، مستغلا القانون الخاص للعالم السفلى للمال والأعمال، قانون شعاره السداح مداح.. يسمح للمرور لمن يدفع، فى لعبة المال والنساء يسيل لعاب مسئولين ضعاف النفوس.