نصار عبدالله يكتب: مصطفى لبيب وداعا
منذ أربعين عاما تقريباعندما كنت أعتزم التسجيل لدرجة الماجستير فى الفلسفة من كلية الآداب جامعة القاهرة كان دليلى ومرشدى (فى كل شىء تقريبا) هو مصطفى لبيب عبدالغنى الذى كان إذ ذاك مدرسا مساعدا بالقسم وظل كذلك على مدى سنوات طويلة تالية...نمط غريب ونادر من البشر ذلك الذى يتطوع بحماس وتلقائية لكى يدلك على كل ما تريد أن تعرفه بكل دقة وأمانة وصدق وإحاطة شاملة..بدءا من إجراءات التسجيل وأسماء الموظفين الذين سوف يتعين عليك أن تتعامل معهم مع تقرير واف عن شخصية كل موظف مرورا بكيفية اختيار الموضوع وإعداد خطة البحث والشكل الأمثل للخطة الذى سوف يوافق عليه مجلس القسم ومجلس الكلية دون عناء!! وانتهاء إلى أسماء أساتذة القسم الذين يصلحون كمشرفين نموذجيين، مع صورة وافية لخصائص كل أستاذ وسماته ومزاياه العلمية والشخصية (وعيوبه أيضا فى كثير من الأحيان)...وقد تبين لى فيما بعد أن كل ما كان يقوله فى هذا الخصوص صحيح مائة فى المائة!..كنت قد تخرجت فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية قبل أن ألتحق طالبا منتسبا إلى قسم الفلسفة بكلية الآداب وأحصل على درجة الليسانس فى الفلسفة وعلم النفس عام 1971 (لم يكن علم النفس قد استقل بعد وتحول إلى قسم مستقل) ثم اجتزت بنجاح السنة التمهيدية للماجستير، وأصبح من حقى أن أتقدم للتسجيل.. أثناء فترة الانتساب لم أكن مواظبا على حضور المحاضرات لأنى كنت مجندا بالقوات المسلحة وكانت الوحدة التى أخدم فيها فى الجيش الثانى الميدانى متمركزة على شط القناة، ومع هذا لم تكن مكلفة بمهام قتالية..لأنها كانت تابعة لسلاح الكيماوية.. وكان تخصصها هو التطهير من الغازات فيما لو استخدم العدو غازات كيماوية.. وحيث إن العدو لم يستخدم أية غازات فإن وحدتنا لم تكلف بأية مهام على الإطلاق خلال حرب الاستنزاف! كنا فقط نهرع إلى الدشم عندما يبدأ القصف الإسرائيلى على مواقعنا ونتحصن بها.. كان لدى وقت كبير للقراءة عموما واستذكار المواد الدراسية خصوصا.. ولم يكن القصف الإسرائيلى يحول بينى وبين مواصلة القراءة.. حتى حينما يكون قريبا جدا من الدشمة التى أتحصن فيها.. أعتذر عن هذا الاستطراد وأعود إلى مصطفى لبيب الذى لولاه فربما ما تسنى لى أنا الآتى من الجبهة فقط فى أيام الإجازات ما تيسر لى أن أنجز كل شىء فى سهولة ويسر وكأنى من الحاضرين المنتظمين.. الغريب أنى سبقته فى الحصول على الدكتوراة.. ولم يكن هذا تفوقا منى قدر ما كان تقاعسا وانشغالا من جانبه بأمور شتى بعضها فكرى وثقافى خالص وبعضها يجمع بين الفكرى والثقافى والمشروع التجارى.. فقد أنشأ دارا للنشر متخصصة فى المجال الفلسفى الذى هو تخصصه حيث استغرقت تلك الدار جزءا لا بأس به من جهده ووقته، بينما استغرقت مشاريعه الفلسفية المتنوعة الطموح جانبا آخر، ولم يتبق لرسالته للدكتوراه إلا أقل القليل، ومن ثم كان من الطبيعى أن تطول فترة بقائه مدرسا مساعدا، رغم أنه كان يمتلك من المعرفة الفلسفية ما لا يمتلكه عشرة من الكثيرين من الحاصلين على الدكتوراه مجتمعين، ليس فى هذا الكلام مبالغة على الإطلاق، فقد تجاوزت كتبه فيما بعد السبعين كتابا ما بين مؤلف ومترجم فى مختلف مجالات الفلسفة، وإن كانت الفلسفة الإسلامية والتراث الفلسفى العربى والإسلامى يحظى بالنصيب الأكبر منها.. يوم الإثنين الماضى روعنى نبأ رحيله.. وأحسست لحظتها أنه يرحل حاملا أربعين عاما من الذكريات.