د. نصار عبدالله يكتب: كل ربيع يا أمى وأنت بخير

مقالات الرأي



هذا العام ينقضى خمسة وتسعون عاما على مولد والدتى، وواحد وعشرون عاما على رحيلها.. ولدت والدتى فى عام 1921 فى شهر مارس.. ولدت مع الربيع..كأنها الربيع!.. ورحلت أيضا فى شهر مارس عام 1995.. كأنها أيضا ربيع قد ذهب!!.. لو أنى كنت من المؤمنين بالمقامات وبالأضرحة لأقمت لها مقاما وضريحا... ولأوقدت على جنباته شموعا لا تحصى.. ولنذرت له نذورا لا تعد، ولظللت أبد الدهر من المتبركين بأعتابه حتى لوكنت زائره ومريده الوحيد!!... أمى هى أول من علمنى كيف أمسك بالكتاب وأفك طلاسم الخطوط، وكيف أمسك بالدفتر وأحاكى ما هو مكتوب بالكتب !!..كانت من المتعلمات القليلات جدا فى جيلها فى صعيد مصر خاصة فى تلك الحقبة التى كانت تمور بإرهاصات التغيير، تلك الحقبة المتمثلة فى العقود الأولى من القرن العشرين التى شهدت ظهور قاسم أمين وهدى شعراوى واندلاع ثورة 1919والتفاف الشعب المصرى حول الزعيم سعد زغلول وزوجته السيدة صفية مصطفى فهمى التى عرفت بعد ذلك بصفية زغلول والتى لقبت بـ«أم المصريين»، ورغم أن المسيرة التعليمية لوالدتى قد انقطعت برحيل والدها الذى كان من المؤمنين بضرورة تعليم المرأة متحديا بذلك كل الأعراف والتقاليد البالية، ورغم أنها برحيله فقدت ظهيرها المستنير فى تلك الحقبة المظلمة من الزمان، ثم أرغمت بعد ذلك علىالزواج المبكر من ابن خالها «الذى هو والدى» والانقطاع تماما لأعمال البيت دون أن تجد من والدتها أو من خالها «الذى هو جدى لأبى والذى عين وصيا عليها». دون أنت تجد من أى منهما أذنا صاغية لتوسلاتها بأن يسمحوا لها بأن تكمل تعليمها، لكن البيت مع ذلك لم يشغلها تماما إذ انشغلت لحسن حظها ولحسن حظى أيضا وحظ إخوتى كذلك، انشغلت بشىء آخر هو تلك المكتبة الضخمة التى تركها لها أبوها حيث كانت القراءة جزءا أساسيا من برنامجها اليومى الذى لا تتخلف عنه قط. وحين كنت أراقب ملامح وجهها وهى تقرأ كان يشتد بى الفضول حول طبيعة تلك الكنوز المخبوءة فى باطن الكتب والتى ترسم على وجهها كل تلك التعبيرات والانفعالات.. وحين كنت أسألها لماذا كانت تقطب أحيانا وهى تقرأ، ولماذا تنفرج أساريرها أحيانا أخرى، كانت تتلو على سطورا من كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير فيها ما يملأ النفس بالفزع، ثم تتلو سطورا أخرى فيها ما يملأ النفس بالبهجة!! وكنت أعجب من أن الكتب فيها كل تلك الأشياء وأتمنى أن يجىء اليوم الذى أصبح فيه مثلها قادرا على القراءة !! كانت الكتب المفضلة لديها هى القرآن الكريم وكتب السيرة والتاريخ الإسلامى... تقريبا لم تكن تقرأ شيئا خارج تلك المجالات..لكننى حين تعلمت منها عشق القراءة بدأ التيار يجرفنى إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.. لكنها يبقى لها فى كل الأحوال أنها هى التى غرست فى نفسى هذا العشق الذى غرسته أيضا فى نفوس كل إخوتى وكذلك فى أبنائهم الذين هم أحفادها.. فى شهر مارس من كل عام أتذكر ميلادها ورحيلها وأترحم عليها كثيرا، لأن ما تعلمته منها هو ماتعلمه منها كل إخوتى، وهو ما صنعهم جميعا وجعل كل واحد منهم رمزا متميزا فى مجاله...كل ربيع ياأمى وأنت بخير حتى وأنت فى ربيع الجنة.