عمال يتصبب العرق من جبينهم، يقفون أمام ماكينات بدائية، يصنعون منها الجلود ويصبغونها، داخل ورش بسيطة في مبانٍ متهالكة موجودة في شوارع ضيقة تغرقها مياه الصرف الصحي، التي تفوح منها رائحة كريهة تضاف إلى رائحة الجلود التي يصنعونها ومواد الصباغة، كما تنتشر الكلاب الضالة في أرجاء الشوارع، والتي تتواجد من أجل أن تتسارع على بقايا الجلود.
هذا بالإضافة إلى عربات الكارو التي تسير وسط برك الصرف الصحي حاملة الجلود والمواد المصنعة لها والصبغات، ويعتليهم عدد من الأشخاص يحاولون بصعوبة التنقل داخل الشوارع الغير ممهدة، والتي تغرقها مياه الصرف، حيث أن الكارو تعد وسيلتهم الوحيدة للتنقل بين هذه الشوارع الغارقة.
حكومات تتعاقب ولم تنفذ.. و"السيسي" يحسمها
هنا منطقة "المدابغ" بمصر القديمة، والتي تكونت منذ عقود خلف سور مجرى العيون، لتبنى ورش تنتج معظم انتاج مصر من الجلود، وتصدرها للخارج، والتي تعاقبت الحكومات لتكرر قرارها بشأن الإزالة الفورية للمنطقة ونقل الورش إلى منطقة "الروبيكي" التي ستخصص لصناعة الجلود كبديل لها، وهو مالم يحدث حتى الآن، ولكن الرئيس عبدالفتاح السيسي كررها مؤخرًا لأكثر من مرة موجهاً الحكومة بسرعة نقل المنطقة وافتتاح "الروبيكي".
ومن المخطط له أن تصبح "الروبيكي" مدينة صناعية نموذجية، بطريق مصر إسماعيلية الصحراوي، لتستوعب المدابغ التي تقوم عليها صناعة الجلود في مصر، وأصدر مؤخرًا الرئيس عبد الفتاح السيسي قراراً بالبدء في العمل بمشروع نقلها.
آلاف من العمال وعشرات الورش
وتحتوي تلك المنطقة التي اتخذت سور مجرى العيون جداراً يفصلها عن ما هو خارجها، على عشرات الآلاف من العمال يعملون في تلك الصناعة، الفئة التي يفترض أن تكون مستفيدة الأكثر من هذا القرار أو ربما تتضرر، بالإضافة إلى عشرات الورش التي تختلف بين ورشٍ لصناعة الجلود وأخرى للصباغة، بالإضافة إلى بعض المنازل التي بنيت بعشوائية بين الورش.
على الحكومة أن تتركنا ننعم في "بؤسنا"
والآن بعد أن علم عمال منطقة المدابغ قرار الحكومة النهائي وبتوجيه من الرئيس "السيسي"، بنقلهم في أسرع وقت ممكن من مكان عملهم وأرزاقهم إلى "آخر الدنيا" على حد تعبيرهم، أصبح كل ما يطالبون الحكومة به هو أن تكف أيديها عنهم، وتتركهم ينعمون بذلك البؤس والشقاء الذي هو أفضل ما يمكن أن يحصلوا عليه إذا نفذت الحكومة قرارها هذه المرة.
وأجمع العمال بتلك المنطقة على أن الحكومة لم تدرس هذا القرار بشكل جدي أو بشكل كاف، لافتين إلى أن الصناعة تقوم على منظومة اجتماعية معينة، لا تعلم الحكومة عنها شيء، وأنها إذا نفذت هذا القرار سوف تتسبب في "قطع عيش كل الناس اللي على الله" على حد تعبيرهم. فالأمر لا يتوقف على أصحاب المدابغ ومُصدرين الجلود فقط، لأن للأمر أبعاد أخرى لا تدري عنها الحكومة شيء.
"الحكومة" تلقينا في الصحراء لبلطجية الإتاوات
للعربة الكارو دورًا كبيرًا في تلك المنطقة، فبخلاف أنها تعد وسيلة النقل الوحيدة هناك، إلا أنها كذلك مصدرًا لرزق الكثيرين، فيعمل عليها صاحبها الذي يحصل على 20 جنيه للنقلة الواحدة، بالإضافة إلى الحمالين الذين يحملون الجلود من الورش للعربة.
رشاد، صاحب عربة كارو، يقوم بنقل الجلود إلى المدابغ والورش والمخازن التي تمر عليها الجلود أثناء مراحل التصنيع المختلفة، الذي بالطبع لم يوافق على القرار بنقلهم إلى منطقة "الروبيكي"، معللاً ذلك بأنه لن يكون لهم مكان هناك، لافتًا إلى أن الحكومة تريد أن تلقي بهم في الصحراء، لتتركهم فريسة سهلة في أيدي العرب الذين يسيطرون على المكان هناك ويفرضون الإتاوة على كل من هب ودب- على حد قوله.
وأضاف أن دباغة الجلود والعمل بها لا تؤثر على صحتهم وصحة السكان كما تزعم الحكومة، موضحًا أنهم يعملون بهذه المهنة منذ عشرات السنين فإذا كان هناك ضرر لم يكن أحدهم على قيد الحياة إلى الآن.
نختار أن نعيش في ظروفنا الصعبة بدلًا من تشريدنا
وداخل الورش البدائية يقف العمال أمام الماكينات تغمرهم المياه، حيث يقومون بفرد الجلود ذات الرائحة الكريهة عليها من خلال المياه ذات اللون الأسود والتي لم تختلف عن مياه الصرف كثيرًا، ليظلوا أكثر من 9 ساعات أمامها، تحاصرهم مسببات الأمراض جميعها، ليتقاضوا مقابل 50 جنيه على ذلك.
يقف أحمد، عامل بمدبغة، أمام ماكينة الدباغة 9 ساعات متواصلة، مرتديًا "جوال" بلاستيكي لحمايته من المياه التي تحيطه سواء من الماكينة التي يعمل عليها أو في الأرض، ليتقاضى مبلغ 50 جنيهًا، وهو أيضاً لا يريد الانتقال من منطقة مجرى سور العيون إلى الروبيكي، ويرى أن هذا القرار لا يصب إلا في مصلحة التجار الكبار والمُصدرين الذين يحتكرون السوق، لكن العمال و "الأرزقية" سيتضررون بالتأكيد على الأقل بسبب بُعد المسافة على الأقل حيث لن يستطيعوا الانتقال من منازلهم إلى منطقة الروبيكي بشكل يومي غير أن هذا التنقل الدائم سيزيد من أعبائهم المادية.
وأضاف أنه بالرغم من سوء الأوضاع المعيشية في مكانهم هذا إلا أنهم يرفضون تركه تماماً، مشيرًا إلى أنهم يستطيعون العيش في هذه الظروف الصعبة، لكن إذا تم نقلهم بالفعل سوف يتم تشريد آلاف العمال.
قرار غير مدروس يتسبب في خسارتنا
ومرورًا في طرقات وأزقة المنطقة نجد أغلب أصحاب الورش يجلسون أمام ورشهم، يرتسم على وجوهم بائسًا شديدًا، وكأنهم تدور داخلهم أسئلة لم يجدوا لها إجابات حول مصيرهم خلال الفترة القادمة، فهم يرفضون أن ينقلوا إلى مكان يصفونه بالصحراء، وفي المقابل الدولة تتمسك بقرارها ليتم تنفيذه في أسرع وقت.
ويقول الحاج علي، صاحب مدبغة ومعرض للجلود: "إن الرئيس السيسي رجل وطني واحنا متأكدين من وطنيته، لكن القرار غير مدروس لأن نقل المدابغ سوف يتسبب لنا بالخسارة المادية، و نقل منطقة المدابغ لا يمكن يتم خلال عام واحد".
وأضاف متسائلاً، بسخرية ممزوجة بيأس: "الروبيكي منطقة صحراوية هعمل الجواكيت وأعلقها في الجبل؟!!"، مشيرًا إلى أن المستفيد الوحيد من عملية النقل إلى الروبيكي هم أصحاب المدابغ الكبرى، مقترحًا أنه إذا كانت الحكومة تتمسك بتنفيذ قرارها فيمكنها نقل هؤلاء التجار وترك أصحاب المدابغ الصغيرة مكانهم.
الصناعة تندثر ونقل المنطقة يقضي عليها
أناس طيبون يكدحون من أجل لقمة العيش، تظهر على وجوههم سيم البؤس والشقاء، لا أحد ينظر إليهم أو يعيرهم اهتمامه، هؤلاء الفقراء الذين قامت الثورة من أجلهم، اقتصرت شكواهم على طمعهم في تأمينات صحية واجتماعية، فهم لا يطمعون سوى في مستشفى للعلاج بالمجان، ومعاش يعتمدون عليه حين يمرضون أو يبلغون من العمر ما لا يسمح لهم بالعمل.
"حسين" صاحب مدبغة قديمة موجودة بمبنى أثري تخطى عمره المائة عام، حاصل على بكالريوس علوم إدارة، يعمل بكد حتى يعلم أطفاله حتى لا يلاقون نفس مصيره بعد أن ورث مهنة الدباغة عن والده.
قال إن الدولة عليها تحسين الخدمات في المنطقة وتطويرها، مؤكدًا أنهم يرفضون الانتقال إلى أي مكان آخر، وأن نقل المدابغ إلى مكان بعيد عن القاهرة سوف يتسبب في ارتفاع أسعار المصنوعات الجلدية التي كادت تندثر في مصر بعد غزو المنتجات الصينية، بسبب ارتفاع تكاليف النقل.
وأضاف أن الحكومة لا تهتم لأمرهم على الإطلاق، ولا تريد سوى إخراجهم من المنطقة لأنهم يريدون الأرض التي وصفها بأنها "رمانة القاهرة"، ظناً منهم أن هناك كنوز أثرية أسفلها، مشيرًا إلى أن الموجود مياه جوفية، ومشددًا: "مش هنخرج منها حتى وإن قطعوا عن كل الخدمات من كهرباء ومياه".
حياة غير آدمية ولكن..
يعيش أهالي المدابغ ظروفاً صعبة، ويحيون حياة يمكن وصفها بأنها "غير آدمية"، حيث تنتشر أكوام وتلال القمامة في كل مكان، مجاري الصرف الصحي تغرق الشارع والمفاجأة كانت أنه لم يتم تصليحها منذ أكثر من عام، حتى اعتادوا التنقل خلالها بطرقهم الخاصة عبر استخدام الحجارة.
وأجمع كل العاملين بتلك المنطقة على أنه بالرغم من سوء الأحوال وكل ما يعانوه من فقر وشقاء وسوء معيشة إلا إنهم رافضين قرار نقلهم إلى أي مكان آخر سوى ذلك المكان الذي ولدوا وعاشوا وعملوا فيه، فكل تلك المشكلات التي تواجههم يومياً أهون بكثير مما سوف يلاقوه إذا تم نقلهم.
كما أجمعوا على أن من اتخذ هذا القرار لا يهمه سوى مصلحة كبار التجار والمصدرين ومحتكري دباغة الجلود، وأن آلاف العمال البسطاء من أصحاب ورش وأصحاب العربات الكارو وشيالين سيتم تشريدهم ولن ينظر إليهم أحد بعين الرأفة، وهذا وإن دل على شيء إنما يدل على أن هذا القرار لم تتم دراسته بالشكل الكافي قبل اتخاذه.