"رسالة مهرجان ابوظبي السينمائي "تحليل: "قيصر يجب أن يموت" للأخوين اللإيطاليين باولو وفيتوريو تافياني


خاص جريدة الفجر : ابوظبي

أكد صاحبا أبي سيدي (1979) و ليلة سانت لورنزو (1984) المخرجان الكبيران الأخوان الإايطاليان باولو وفيتوريو تافياني، أن طليعيتهما لم تخبو، وأن خيالهما لم يضعف، وأن موهبتهما في الصون، مع إنجازهما هذه التحفة من السينما الاستقصائية الباهرة. قيصر يجب أن يموت اشتغال حيوي، ذكي، وساطع بنور إنسانيته وانتصاره الى الحياة والحرية. إنه ريبرتوار مسرحي متقن، وضبته عدسة المبدع سيموني زامباغيني على شكل يوميات سينمائية لفريق رجالي، يتدرب على إنجاز مسرحية ويليام شيكسبير الخالدة يوليوس قيصر . المفارقة أن هؤلاء ليسوا رجالاً عاديين. إنهم مجموعة من خوارج الأمان الاجتماعي في إيطاليا اليوم. صفاتهم في القيد القانوني مجرمون وسراق ومغتصبون وقتلة ، بيد أنهم أمام الأخوين تافياني وفريقهم: ممثلون بالفطرة!



هؤلاء هم نزلاء سجن ريبيبا المعروف بشدة حراساته، يعيشون عقوباتهم خلف القضبان. كثر منهم لن يروا العالم الخارجي، نظراً لخطرهم الكبير، بيد أن هذا العالم أبى إلا أن يكسر الحاجز الثقيل، ويكونوا ـ ياللمفارقة ـ مؤدي أدوار خالدة تحت إدارة اثنين من قامات السينما العالمية. يطرح فيلم اللأخوين تافياني سؤالاً سينمائياً خالصاً: هل تلغي جدران السجون إنسانية معتقليها، وكم يفقدون من حصانة مشاعرهم وكبريائهم وشحنة الإيمان بالأمل؟ هل اليوميات الملولة في حياة الاعتقال كافية الى قتل روح المبادرة في كياناتهم؟ كانت تجربة المسرحي فابيو كافالي الأثيرة مع مجموعة منتقاة من السجناء لتأدية المسرحية الشهيرة، تناهت الى أسماع الاخوين الذين وجدا فيها فرصة لا تعوض او تُغفل من أجل إنجاز فيلم يستلف صيغة الدوكيودراما التي أتاحت لهما الحيز الواسع للعب على حقيقة الكائن المحبوس والمعزول وقدرته على تجاوز الحيز الضيق المحيط به، مقابل الممثل الحر الذي يتماهى مع شخصيات خيالية، ويندمج في أدوار مغاير لكينونته. عليه، قسم الإخوان تافياني شريطهما بما يساير الاختلاف الدرامي، معتمدين على تقسيم بصري/ نفسي: المشاهد الملونة ليوميات السجناء الحقيقين، مقابل اللونين الأبيض والأسود تمييزاً للمشاهد الممسرحة. أنها لعبة الخيال الصافي التي يتعالى إلقها في المشهد الختامي للعرض المسرحي الذي يعد قطعة ثرية.

يمكن اعتبار جهد الاخوين تافياني، من دون تردد، تطهيراً سينمائياً أطلق سهامه على مشاهده، مثلما أصاب ضمير سجنائه. إن مشاهد قيصر يجب ان يموت لا يتابع جلسات وحوارات ممثلة، وإنما يندمج في عملية خلاقة استقصائية، سعياً الى فهم حقيقة الانقلاب الذي يقوده إبداعان مترابطان هما السينما والمسرح، لينجزا بصيرة متفجرة حول الصداقة والخيانة والغدر والبطش والمؤامرة. ليس كما أرادها شكسبير، بل ما تحسسه الممثلون السجناء وهم يزاوجون بين حياة يومية حقيقية ، وأخرى مرتبة مسبقاً. لذا تأتي أعترافات بعضهم عن تأثره بما يختبره موجعة وحقيقية ومفعمة بالصدق. حينما نتابع الرجل البالغ، الذي يتصرف كصبي، يتفاخر أنه يعرف جملة سينمائية شهيرة، نكون أسرى مشهد كلي يضع الإنسان كروح طلقة، مليئة بالعنفوان والألق والعفوية. عن هذه اللفتة، قال باولو تافياني في تصريح أثر فوز الفيلم بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي الأخير: لقد أخبرناهم، أن لهم مطلق الحرية باستخدام أي أسم يحلو لهم، وأن يخترعوا تفاصيل عن سيرهم الذاتية. لكن أحداً منهم لم يستجب. لقد كتبوا جميعهم قصصهم الحقيقية. لقد أدركوا ان هذا الفيلم سيعرض في الصالات، وأنه سيُشاهد من قبل الكثير من الناس. هذه كانت وسيلتهم للصراخ: نحن هنا! نحن على قيد الحياة .

إن الوعي بتفكيك معاني قيصر يجب ان يموت ، لا يستقيم إلا بمقاربة ميتة الغدر التي يتعرض لها القائد قيصر (جوفاني أركوري) على يد الغادر بروتس ( سلفاتوري ستريانو)، ذلك أنها إيحاء درامي لميتات يومية تحدث لهؤلاء السجناء الذين قال احدهم بلوعة نادرة: حينما أنتهى العمل، تحولت زنزانتي الى سجن! . إن عمل الاخوين تافياني جدير بأن يعد أيقونة سينمائية معاصرة، تثبت أن حيوية الفن السابع وتجلياته لا حدود لها.