عادل حمودة يكتب: هؤلاء أخطر على مصر من الإرهاب

مقالات الرأي



■ صمت السيسى ليس من ذهب فقد فتح باب الشائعات والاجتهادات حتى صارت حقيقة يصعب نفيها

 ■ ما لم يقله الرئيس مؤخراً: إن مصر رفضت مصالحة حماس وتعاملت مع الدول الصديقة فى المنطقة معاملة الشريك لا التابع


المصابون بجنون العظمة على الفضائيات ينفذون خطط تفكيك الدولة بتقسيم الشعب وحشو جراحه بالميكروبات والمتفجرات

فى البدء كانت الكلمة.. خلقها الله قبل أن يخلق النور والنار.. صاغها بذاته العليا قبل أن يشكل الخضرة والزهرة.. منحها القداسة قبل يضعها على لسان أنبيائه وأوليائه.. وفرض علينا أن نتوضأ قبل أن نلامسها.. وأن نخلع نعلينا قبل أن ندخل عليها.

لكننا.. حولناها إلى حانة.. ومبغى.. وساحة شتائم.. وسوق للأوراق المالية.. وخادمة سريلانكية.. نمسح بها كرامة الوطن قبل بلاطه.

إن الكلمة التى نقرأها صباحا أو نسمعها عصرا أو نتابعها مساء كنا نعتبرها دائما بيتا نسكنه.. لكن.. يوما بعد يوم وجدنا من يحوله من بيت عبادة إلى بيت دعارة.

لا تؤاخذونى إذا ما استعملت تعابير خارجة.. خشنة.. حادة.. غير لائقة.. لكن.. رائحة كلماتنا وأفكارنا ومعاركنا الوهمية على القنوات الفضائية والصحف اليومية صارت روائح همجية.. غير بشرية.. غير حضارية.. غير عطرية.

نسينا ثقافتنا وتربيتنا وهمومنا وصرنا نتحاور مع بعضنا البعض بالزئير.. والنهيق.. والعواء.. والتهديد.. وكلمات العهر الغجرية.

لن أتورط فى ذكر حادث ما.. أو واقعة بعينها.. أو شخصا بذاته.. فالفضائح كل ليلة.. على الهواء مباشرة.. أصبحنا جميعا فى الوحل.. غرقنا فيه.. فلم نعد نرى الخطر الذى يهدد وطننا.. عمليات إرهابية فى الداخل تنفيذا لمؤامرات توضع فى الخارج.. ولم نعد نسمع صوت أعمدة الدولة تئن وهى من شدة أحمالها.. مهددة بالانهيار فوق رؤوسنا.. لتكرر نماذج ملموسة حولنا.. ولم نعد نستوعب حجم التحديات التى تهدد حياتنا.. زيادة سكانية مرعبة.. بطالة تسيطر على ربع الشباب ونصف الإناث.. عجز هائل فى الموازنة يلتهم فرص التنمية.. تضخم حارق يزيد من جنون الفقر والاغتصاب والتحرش والجريمة والنميمة.

فى الوقت نفسه ضربت السياحة.. وانهارت الصادرات.. وقلت المساعدات.. وتراكمت المديونيات.. وأصبحت مواردنا على فيض الكريم.. ورحنا نطلب العون والمدد من الأولياء والقديسين.

نسينا.. أننا فى 30 يونيو نجونا من مصير سوريا وليبيا والصومال واليمن.. نسينا أن بلادنا عادت إلينا.. نسينا نعمة البقاء فى بيوتنا.. وسط أولادنا.. غير مجبرين على الهجرة خارج الوطن.. بحثا عن دولة تقبلنا.. لو نجحنا ــ بعد أهوال ركوب البحر فى قارب مطاطى صغير ــ فى الوصول إليها.

ومأساة ملايين السوريين أمامنا بالصوت والصورة.. بالحزن والبكاء حتى فقد الألم معناه وجفت الدموع تماما.

وربما.. لاحظنا انخفاضا فى عدد العمليات الإرهابية التى تهدد حياتنا وساهمت فى قطع أرزاقنا.. صحيح أن هناك مواجهة قوية من قوات المواجهة.. لكن.. صحيح أيضا أن مدبريها وجدوا فينا ما يغنيهم عن تنفيذها والقيام بها.. نحن ــ بتصرفاتنا الطائشة وكلماتنا الوقحة وهيافتنا المزمنة ــ وفرنا عليهم الجهد والمال والتجنيد والتدبير والتنفيذ.. نحن بما نفعل وبما نقول أخطر على وطننا من كل المؤامرات والتفجيرات والتفخيخات.

تصور كل من يمتلك برنامجا ليلا أنه مطرب ومحلل وزعيم وصاحب الصوت الأجمل.. لذلك كانت حياتنا السياسية نشازا فى نشاز.. وباسم حرية التعبير عجزنا عن التغيير.. وباسم حق الرد تمزقت حبال الود.

ولم يتردد الطابور الإخوانى الخامس المختفى بيننا فى استغلال كل حادث صغير نرتكبه بأيدينا لينفخ فيه النار.. فيزيد من مساحة الأرض المحترقة تحت أقدامنا.

يستغل كل جرح بسيط فى أجسامنا نتسبب فيه ليحشوه بالميكروبات ولنجبر على قطع الأطراف والأوصال.

لو أحكمنا ضبط أمناء الشرطة ما حشد الأطباء فى نقابتهم غاضبين.. وما خرج الناس من أحيائهم ــ أمام أقسام الشرطة ــ ساخطين.. وما تكاتف أهل الرأى والمشورة منذرين.. محذرين.. هل نسينا أن المشهد الأول فى انهيار نظام مبارك كان تظاهرات الشعب ضد تعسف أجهزة الأمن؟

لو سارعنا بمراجعة القوانين التى تبيح لراغبى الشهرة طعن المبدعين بسيف البلاغات والمحاكمات فيما يعرف بدعوى الحسبة ما انفصل الشعراء والروائيون والسينمائيون والمثقفون عن النظام الذى ساندوه وأيدوه ودعموه وفرحوا به.

لو فرضنا المساواة فى وظائف النيابة والخارجية والرئاسة بعيدا عن مجاملات الواسطة والاعتبارات الطبقية لما انفصل الشباب عن الحكم وأحس بالغربة وهو فى وطنه.

ولو نظمنا الإعلام ووضعنا التشريعات التى تدعم حريته وتحد من عشوائيته لما وجدنا أنفسنا أمام مستوصف «جنون العظمة» الذى يستعرض فيه المصابون بانتفاخ الذات قدرتهم على السباب بلا توقف.. كورس سياسى وإعلامى وبرلمانى ردىء.. يحتل المسرح بقوة «الردح».. ويفرض علينا سماع سيمفونيته العفنة بقوة البلطجة.

لقد تحولت تظاهرات الحب والتوحد والتفاهم والمودة إلى مشاجرات هوائية تثير الحقد والقبح والبغضاء والدمار والخراب.

هل نحن بعد ذلك كله فى حاجة إلى أعداء؟

إن مؤامرة التفكيك مستمرة.. لكنها.. تنفذ هذه المرة بأيدينا.. كلمة من هنا وكلمة من هناك وينقسم أهل الرأى على أنفسهم.. إهانة من هنا وإهانة من هناك ويجد الشعب نفسه وجها لوجه أمام الشرطة.. خرق من هنا وخرق من هناك ويتمزق ثوب الوطن الذى يسترنا جميعا.. هل بعد أن ينقسم الشعب تستمر وحدة الأرض ؟

نحن فى وضع خطير.. أخطر مما نتصور.. وخطورته أننا لا ندرك ذلك.. وننشغل بشخصيات فاسدة.. مهووسة بالشهرة.. توهمنا أن الوقاحة شجاعة.. وأن السماجة بلاغة.. وأن الجريمة قيمة.. وسكتنا لها.. بل ومشينا وراءها.. واقتدينا بها.. فإذا بها تأخذنا إلى الهاوية.

وفى المقابل راح النظام يعمل فى صمت.. متصورا أن السكوت من ذهب.. متناسيا أن الله خلق اللسان لنتكلم.. ونعبر.. ونشرح.. ونكشف.. ونفسر.

لم يقل لنا إنه نظام مستقل.. يرفض أن يكون تابعا.. مثل نظامى مبارك ومرسى.. لم يقل لنا إن النظام التابع نظام مريح للقوى الدولية التى تضع مقدرات المنطقة فى يدها.. تدير.. وتخطط.. تدعم من يقبل يدها.. وتحرض على قتل من يرفض مساراتها.

لم يقل لنا إنه نظام يضع الشعب فى حساباته قبل أن يتخذ قراراته.. لقد مدت القاهرة جسورها مع موسكو دون أن تبلغ واشنطن بخطوة واحدة.. وحفيت أقدام قادة حماس من خالد مشعل إلى إسماعيل هنية لتصفح عنهم مصر.. لكنها.. رفضت المصالحة مع مقتحمى السجون وقاتلى ثوار التحرير ومساندى الإخوان فى عملياتهم الإرهابية.. ورغم حاجة مصر للمساعدات العربية فإنها حرصت على أن تكون شريكا فى القرارات التى تتخذ فى المنطقة.. متجنبة الموافقة على شىء دون مشورة مسبقة معها.. وتفهم الجميع برحابة صدر موقفها.

لم يقل لنا إنه أصبح نموذجا فى دول أخرى.. مثل ليبيا.. حيث يدفع الجنرال حفتر ثمن إيمانه بالنموذج المصرى فى توحيد بلاده.

لم يقل لنا إن الدولة التى أمسك بها كانت مهلهلة.. مؤسساتها هشة.. يقدر فيها الموظف الصغير على ما لا يقدر عليه الوزير.. لقد نجحت البيروقراطية الصلبة فى تعطيل تسويات مالية لشخصيات تضخمت ملفاتها فى جهاز الكسب غير المشروع.. مثل حسين سالم ورشيد محمد رشيد وغيرهما.. والتسويات بمليارات تحتاج الحكومة لضخها فى شرايين الاقتصاد التى جفت لتعيد إليها الحياة.. وتكررت الأزمة ذاتها فى تسويات الأراضى التى بنيت عليها المنتجعات السكنية.. وتجمدت مرة أخرى مليارات نحن فى أشد الحاجة إليها.

لم يقل لنا إنه ليس فى مصر مدرسة أو معهد أو كتاب يتخرج فيه الوزراء وأصحاب الكفاءات.. وأنه أحيانا يلعب دور «البيبى سيتر» بين المسئولين الكبار.. لتسير المركب المحملة بالهموم والأثقال.

وزير تأكل قلبه الغيرة من وزيرة.. وزير تصورنا أنه سينقى وزارته من الإخوان فراح يتوسط لشخصيات ليست فوق مستوى الشبهات.. بل. لم يقل لنا إنه لم يدخر جهدا فى مناقشة الانفلات الإعلامى بحوار هادئ.. استمر طويلا.. لكن.. ماذا يفعل كلام العقل مع مجانين الشهرة بالصدامات واللكمات والمفاجآت؟

لكن.. يبدو أن النظام شعر بأن الصمت لم يعد ممكنا.. فقرر أن يتكلم.

قدم الرئيس كشف حسابه فى عشرين شهرا.. ليثبت بالأرقام والتواريخ أن إنجاز يوم بشهر أو بسنة مما تحسبون.. وأعترف أننى ذهلت مما سمعت.. فأغلب ما قيل لم نسمعه من قبل.. طرق جديدة.. تجديد طرق قديمة.. إضافة موانئ ومطارات.. تحلية ومعالجة مياه.. شقة لكل شاب.. إضافة طاقة كهربائية للمصانع والاستثمار.. البدء فى مشروعات المليون ونصف المليون فدان.. وكل مشروع من هذه المشروعات يتكلف مليارات حتى وصل حجم الدين العام إلى تريليونيين من الجنيهات تدفع الدولة فائدة عليه تصل إلى 250 مليار جنيه.. مما يعنى أن علينا مضاعفة ساعات العمل بدلا من الثرثرة فيما لا نعلم.. ونشر الإحباط بما نسمع.

هناك حلم حقيقى يتحقق تدريجيا على الأرض.. لكن.. ثماره لن تأتى ــ كما ننتظرها ــ اليوم.. وهو ما على قادة دولة «التوك شو» شرحه وتوضيحه لنا بعد أن يعفينا مجانين الشهرة منهم من نصائحهم ومواعظهم التى حفظناها ــ مثل اسطوانة مشروخة ــ عن ظهر قلب.

كل ما نريده منهم أن يوقظوا ضمائرهم ويوقفوا معاركهم الذاتية وبطولاتهم الوهمية أو ينقطونا بسكوتهم.