عبد الحفيظ سعد يكتب: كمال أحمد الكبير

مقالات الرأي



■ لماذا اختار «عكاشة» ذكرى شهيد رفض التطبيع لمقابلة السفير الإسرائيلى
 ■ «جزمة» كمال أحمد تثأر لروح سعد إدريس حلاوة

أزمتنا أننا نتعامل مع عدو، ولا ندرك أنه يحرص دائما أن يتعامل معنا بلغة الأرقام.. يريد أن ينسج التاريخ لأهدافه بعد أن فرض بالقوة والمؤامرة واقع الاحتلال على الجغرافيا.

وجدت نفسى مضطراً أن أبحث فى التاريخ القريب عن ماذا حدث فى يوم 26 فبراير؟ اليوم الذى اختاره عضو البرلمان توفيق عكاشة، ليستقبل فيه السفير الإسرائيلى على أرض الدلتا المصرية.. لماذا هذا التوقيت الذى يبدو أنه مقصود أن يدنس فيه سفير إسرائيل قلب الدلتا المصرية.

فى تاريخ هذا اليوم قبل 36 عاما، كانت القاهرة تستعد لحدث عبثى.. اضطر نيلها أن يراقب وهو صامت، لأول مرة علم إسرائيل يرفرف على ضفته الغربية.. تقبل النيل المنكسر فيضانه فى شهور الشتاء، الأمر الواقع، مثل غالبية المصريين الذين ابتلعوا عن مضض اتفاقية السلام الخائبة مع إسرائيل.

ولا يعنى تقبل المصريين، وجود سفارة لإسرائيل، أن تتحول لتطبيع العلاقة مع العدو الذى أذل الجد وقتل الأب والعم وشرد الأخ، وأرهقنا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا فى حرب ساخنة على مدار ثلاثة عقود، قضت على أحلام أجيال.

وقبل أن تهنأ تل أبيب بالحلم الذى راود صناعها، أن يروا علم كيانهم المحتل، يرفرف على الضفة الغربية للنيل، كان هناك وجدان شعبى يتحرك، ليضع رسالة فى هذا اليوم المشئوم، ويعلن رفض وجود إسرائيل على أرضنا.

قرار المواجهة لم يكن هذه المرة من قادة الحرب أو السياسة أو ناشطى القومية، ولم يخضع لاعتبارات القوة، بل سطره فلاح مصرى، كان عمله الفأس واستراتيجيته الأرض التى يعيش عليها وتشربت منها عروقه، وتشكل زنده بخيرها.

لم يكن صاحب الموقف يرتب أو يخطط ماذا يفعل، لكنه وجد نفسه مضطرا أن يعلن موقفه، لم يعجبه ما تنقله محطات الراديو والتليفزيونات أو مانشيتات الصحف، بوجود سفارة إسرائيل على أرض مصرية، فوضع فأسه فى الأرض واتخذ قراره.

كيف يتصور سعد إدريس حلاوة الفلاح المصرى، أن تفتح الأبواب للسفير الإسرائيلى إلياهو بن اليسار كأول سفير للكيان الصهيونى فى مصر بعد معاهدة كامب ديفيد، ليقف على أشلاء شهدائنا، ويقدم أوراق اعتماده، وهى الخطوة التى مضى فيها الرئيس السادات بهدف تنفيذ مخطط التطبيع مع إسرائيل بالرغم من الرفض الشامل لهذه الخطوة من جميع التيارات السياسية بمختلف توجهاتها.

لكن سعد حلاوة اختار أن يعلن عن رفضه، ليس بكلام شجب أو رفض للتطبيع، لكنه اختار أن يصل صوته وموقفه للجميع، بجنون.. فقرر التعبير عن رفضه لخطوة السادات باستقبال السفير الصهيونى، أخذ سلاحه وتوجه إلى الوحدة المحلية لقرية أجهور الكبرى بمحافظة القليوبية، مسقط رأسه، وقام باحتجاز موظفى الوحدة المحلية، معلنا مطالبته بطرد السفير الإسرائيلى.

قلبت واقعة سعد حلاوة الدنيا رأسا على عقب، وتوجهت الأنظار حوله، وتم التخلص منه برصاصة فى الرأس، ليس لخطورة ما يقوم به، لأن ما فعله كان للفت الأنظار لقضيته، ولم يكن للقتل أو الترويع، يعلن مطالبته وهو ممسكا بميكروفون، كان يريد أن يوصل رسالة ويذرع فكرة، كما يذرع البذر على الأرض، وهو يدرك أن الثمن سيكون حياته، فالمسيح كان يدرك هلاكه قبل أن ينزل على الأرض لكنه ضحى بنفسه من أجل أن يوصل رسالته، فقرروا التخلص منه.

استشهد سعد حلاوة برصاصة كان ينتظرها ولا يخشاها، لكن القتلة لم يكن يستهدفون رأس سعد حلاوة، بل هدفهم فكرته، لذا تعمدوا تشويه صورته، فكتب التوصيف الطبى عن سعد حلاوة، أنه «رجل متخلف عقليا». لكن فى السجل الوطنى سطره «بطل قومى»، وظل محفوظا فى الذاكرة الوطنية.

سعد حلاوة الذى ضحى بشبابه واستشهد لفكرته وهو فى عمر 33، فلاح ابن فلاح لأسرة ريفية، تمتلك عدة أفدنة زراعية كان الوحيد من بين أشقائه الخمسة الذى لم يكمل تعليمه الجامعى، لكن أراد أن يوصل رسالة، وحصل على لقب شهيد مقاومة التطبيع.

مات سعد حلاوة وعاشت فكرته، بعد أن فتن بفعله الرمزى خيال الشعراء فكتب نزار قبانى قصيدته الشهيرة عنه، ورثاه الشاعر الكبير فى قصيدة طويلة، قال فيها: «مجنون واحد تفوق علينا جميعا» وكتب قبانى «بالنسبة لتاريخ المقاومة المصرية فإن سعد إدريس حلاوة هو أول مجنون عربى لم يحتمل رأسه رؤية السفير الإسرائيلى يركب عربة تجرها الخيول إلى قصر عابدين فى القاهرة ويقدم أوراق اعتماده إلى رئيس جمهورية مصر».

سعد حلاوة كان الأصدق والأصفى والأنقى فهو لم يقتنع بأسلوب المقاومة العربية وبيانات جبهة الصمود والتحدى.. فقرر أن يتصدى على طريقته الخاصة ويخترع مقاومته، إذا كان سعد حلاوة مجنونا فيجب أن نستحى من عقولنا وإذا كان متخلفا عقليا فيجب أن نشك فى ذكائنا.. هو قاوم افتتاح السفارة الإسرائيلية فى القاهرة على طريقته الخاصة فقتل.

رغم أن جسد سعد حلاوة، ضاع لكن فكرته ظلت تحلق فى كل البيوت المصرية، وكانت فعلته، دليلا ومرشدا لرفض التطبيع، وكانت البوصلة التى تحركت بناء عليها كل القوى السياسية المصرية، فاتخذت النقابات والروابط المهنية والعمالية قراراً برفض التطبيع.. وأعطى سعد حلاوة روشتة للوجدان الشعبى فى رفض التطبيع مع إسرائيل وترك أمر السياسة للحكام، بعد أن تحول سعد حلاوة رمزا لمقاومة التطبيع وتحول يوم استشهاده عيدا وطنيا لرفضه.

لذلك لم يكن مستغرباً، أن يكون يوم استشهاده يوماً مكروها لإسرائيل التى تهدف للقضاء على أى رمز، لا تريد أن يعيش تاريخا يفكرنا بكرهها، وهو ما يدفعنا أن نتساءل هل اختار السفير الإسرائيلى أو رتب مع توفيق عكاشة يوم استشهاد بطل مقاومة التطبيع؟ لماذا اختار أن زيارته فى بيت عكاشة بالدلتا المصرية الأرض التى خرج منها حلاوة.

ومن هنا لم يكن مستغربا، أن يكون رد الفعل العفوى من النائب المخضرم كمال أحمد على ما قام به توفيق عكاشة، بأن يقذفه بـ«جزمته» بعد أن اختار يوم مقتل شهيد رفض التطبيع، ليستقبل السفير الإسرائيلى، ويوصم فعلته بالبرلمان، ويكسر الموقف الشعبى لرفض الكيان الصهيونى، بل ويكسر رمزية استشهاد سعد حلاوة.

تحرك كمال أحمد، والذى كان مشاركاً فى رفض التطبيع، بل واتفاقية كامب ديفيد مع زملائه فرسان البرلمان ممتاز نصار وأبو العز الحريرى والتى كانت مواقفهم السبب الذى دعا السادات أن يحل هذا البرلمان فى عام 1979، اعتقاداً منه أنه سيكسر جدار رفض إسرائيل، لكن ما قام به سعد حلاوة جعل للرفض رمزا وكان يوم استشهاده عيداً شعبيا ضد التطبيع.. وهو ما تذكره إسرائيل جيدا، وهى كعادتها دائما تلعب على طمس التاريخ.. لكن ردت عليهم بضاعتهم وسيظل 26 فبراير يوم استشهاد سعد حلاوة.. وسيواجه كل تحرك شعبى لصالحها بـ«الجزمة» التى كانت رد فعل شعبيا من كمال أحمد، كما فعل «سعد إدريس حلاوة» قبل 36 عاماً.