عادل حمودة يكتب: حياة هيكل الشخصية كما سمعتها منه مباشرة

مقالات الرأي



■ أمى تمنت أن تتزوج أفنديا بطربوش لكنها لم تجرؤ على معارضة زواجها من والدى تاجر الغلال الذى يرتدى الجبة والقفطان ولا يجيد القراءة والكتابة

■ كانت الزوجة الثانية تعرف الإنجليزية وقواعد الحياة العصرية وتأثرت بأساطير الزير سالم والأميرة ذات الهمة

■ الزوجة الأولى لأبى «السيدة صالحة» أنجبت له ولدين هما أحمد ومجاهد أضاعا ثروته فى أمور شخصية وماتا بمرض خبيث فى الصدر

■ كنت أفتش فى المقطم على جماجم الثعابين الميتة بحثا عن الأحجار الكريمة التى تخرج من عيونها

■ عم حامد حارس البيت حارب مع جيش الخديو إسماعيل فى القرم وأثارت حكاياته عن الحرب خيالى فتحمست للعمل مراسلا عسكريا لتغطية حرب العلمين لصحيفة الإجيبشيان جازيت

■ لم يسلم من مؤامرات رجال عبدالناصر واتهمه زكريا محيى الدين بالخيانة العظمى على لقاء جرى فى القدس مع بن جوريون قبل إعلان دولة إسرائيل

■ منح عبدالناصر فرصة التعبير بأسلوبه الساحر ومنحه عبدالناصر فرصة الشهرة العالمية بالوثائق والأسرار التى خصه بها

■ أول مهمة صحفية كانت سؤال 100 امرأة عاهرة فى حى مشبوه بعد إلغاء الدعارة رسميًا حماية لجنود الحلفاء من الأمراض الجنسية

■ البقعة السوداء فى حياته ذهابه إلى لقاء محمد مرسى ومحاولة التوسط بين الإخوان والقوى الوطنية ولذلك السبب أعلنت خلافى معه لكنه لا يتقبل النقد مهما كان موضوعيا ويرد عليه باتهامات خفية يبثها عبر مريديه

لم تتحقق أمنية محمد حسنين هيكل فى أن يدفن فى مقبرة تغطيها الزهور.. يشيدها داخل عزبته فى برقاش التى تقع على أطراف القاهرة.. وتمتد مساحتها إلى 25 فدانا.

كان على ما يبدو متأثرا بضريح أغاغان السلطان محمد شاه المقام على ضفة النيل الغربية فى أسوان.. وأوصت زوجته البيجوم أم حبيبة بوضع وردة حمراء عليه كل صباح.

وربما.. دعمت الفكرة زوجته السيدة هدايت تيمور بالوردة الحمراء التى كانت تضعها كل يوم على مكتبه.. ولم تتوقف بعد اعتقاله فى 5 سبتمبر 1981 وحتى الإفراج عنه فى إرسالها إلى زنزانته.

فى خريف عام 2010 قدم هيكل عرضا للوحدة المحلية بالتخلى عن ثلاثة قراريط من أرضه لمقابر القرية الملاصقة لسور عزبته مقابل موافقة محافظ الجيزة فتحى سعد على التصريح بمقبرة داخل أسوار عزبته.

لكن.. العرض سرعان ما رفض بعد حملة شرسة شنتها الصحافة الحكومية ضده شارك فيها علماء من الأزهر مثل الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بكيلة الشريعة والدكتور آمنة نصر عميدة كلية الدراسات الإسلامية استهجنوا الفكرة واعتبروها نوعا من الوثنية.

وعندما رحل هيكل عن الدنيا دفن فى مقابر مصر الجديدة.

وقد تدهورت حالته الصحية بصورة مفاجئة قبل أسابيع قليلة من وفاته بتراكم المياه على الرئة وتعرض الكلى لفشل سريع أدى إلى غسلها ثلاث مرات أسبوعيا ما أثر فى حالته النفسية وضاعف من ضعفه بدينا.

وكان هيكل بعد الستين يطمئن يوميا على صحته بكشف دورى كل صباح يتولاه ابنه الأكبر الدكتور على.. بجانب حرصه على إجراء تحاليل شاملة كل ثلاثة شهور.

وتضاعفت أنواع التحاليل بعد أن أصيب بسرطان البروستاتا وأزالها بجراحة.. كما سبق أن اصيب بنفس المرض فى الكلى وأزال جزءًا صغيرا منها.. وظل يتناول أدوية مميزة متداولة فى حدود ضيقة وغالية الثمن للوقاية من السرطان ومنع الإصابة به مجددا.

وفى رحلة للولايات المتحدة قام بها منذ سنوات قليلة سأل طبيبة متخصصة: هل يواصل تناولها أم يتوقف عنها؟.. لكنه.. لم يجد منها إجابة شافية.. فتلك النوعية من الأدوية الحديثة تؤخذ عادة على مسئولية المريض.

وكان سؤاله التالى: هل أستطيع أن أدخن سيجارا واحدا فى اليوم؟

وكانت إجابة السؤال بسؤال: كم عمرك الآن؟

وعندما قال: اقترب من التسعين نظرت الطبيبة إليه نظرة حانية قائلة: دخن فليس هناك فى تلك السن ما يمنع أن تتوقف عن عادة تستمتع بها ولو حدثت مضاعفات لها فلن تظهر قبل عدة سنوات تكون قد تجاوزت الحدود الطبيعية للحياة.

وكان هيكل قد توقف عن تدخين السيجار الذى يفهم فى أنواعه ويجيد وسائل حفظه بعد أن تعهدت زوجته بالتوقف عن تدخين السجائر.. وكانا على وشك ركوب الطائرة ليبدآ رحلتهما السنوية إلى أوروبا.

وفى أزماته الصحية حرص على أن يتوارى عن الناس فى برقاش أو خارج البلاد كى لا تتأثر حالته النفسية بما يسمع من كلمات تقال عادة فى زيارة المرضى.. وأذكر أنه قدم هذه النصيحة للفنان أحمد زكى عندما زاره بحضورى فى مستشفى دار الفؤاد عقب إصابته بسرطان الرئة.. لكن.. أحمد زكى بطبيعته العفوية لم يعمل بالنصيحة.

والأهم.. أن هيكل كان يعيش على نظام طعام يومى صارم جعل عمره يمتد إلى ما بعد التسعين.. إفطار مكتمل العناصر الغذائية بعد رياضة الجولف أو المشى.. غذاء فى موعد ثابت.. يخلو عادة من الدهون.. وبعده.. لا يتناول شيئًا مهما كان الإغراء.

وحدث أن دعى إلى عشاء على شرف الكاتب والأكاديمى الفلسطينى إدوارد سعيد فى نادى العاصمة ووجدته يتأمل قطعة جاتوه باباه أغرته ببشرتها الخمرية المغطاة بالعسل الأبيض.. وظل يحوم حولها أكثر من ساعتين فقلت له: تناولها فلن تقتلك.. فأخذ منها قطعة صغيرة بطرف سكين.

لقد كان يعتبر الجسم البشرى ماكينة يجب الحفاظ عليه بضخ الحد المناسب من السعرات الحرارية التى تضخ فى تروسها وشرايينها.. خاصة أن الطعام ليس متعته الوحيدة.. فهو يعشق السفر إلى مدن مميزة مثل فينسيا للاستمتاع بمتاحفها.. أو فيينا لسماع فرقها السيمفونية.. أو لندن لمعرفة خبايا السياسة منها.. مثلا.

وقد امتد النظام إلى حياته اليومية وبرامجه السنوية. يستيقظ مبكرا.. فى الخامسة صباحا.. يقرأ الصحف اليومية فى سيارته قبل التوجه إلى ساحة الرياضة.. يدخل مكتبه بكامل ثيابه فى الثامنة.. يتناول نصف فنجان من القهوة.. يستقبل زواره حسب الموعد المحدد.. يؤدى مجاملات اجتماعية حتى العاشرة.. يقرأ أحيانا.. وينام قبل منتصف الليل.

لقد ألزم نفسه بالنظام منذ وقت بعيد.. لأن الإنسان - على حد قوله - يتحرك فى زمن محدد.. فى يوم مساحته 24 ساعة.. وأمامه مهام لا حدود لها.. ولو لم يحسن استغلال هذه الرقعة من الوقت فإنه لن يستطيع أن يفعل شيئا.

يقضى الشتاء فى القاهرة بين شقته المطلة على النيل بجوار فندق شيراتون أو فى عزبة برقاش.. وغالبا ما يسافر فى إجازة الأعياد إلى الغردقة حسب حرارة الطقس.. وبعد أن يعود من رحلته الأوروبية السنوية يقضى شهور الصيف فى قرية الرواد المطلة على شاطئ الساحل الشمالى.. ويمكن بالطبع القبول بتعديلات ما تفرضها الظروف.. لكن.. هذه المحطات تكاد تكون ثابتة وإن تغير ترتيبها.

وما أن أحس هيكل أن لا مبرر لمقاومة القدر بإجراءات طبية تبدو عاجزة على بقائه على قيد الحياة استسلم لدعوة الرحيل الإجبارية إلى عالم آخر مجهول لم يشغل باله به كثيرا.. فرسالة البشر على الأرض تعميرها.

واختار هيكل أن يخرج جثمانه من مسجد الحسين الذى يحمل اسم الحى الذى عاش فيه طفولته وتفتح وعيه عليه.

البيت الذى تربى فيه كان بيت جده لأمه «تاجر الحبوب والغلال عبد الله سلام» وقد هدم فيما بعد وأقيم على أرضه مستشفى الحسين الجامعى حسب ما سمعت من أحد أصدقاء عمره وزميله فى مدرسة التجارة المتوسطة وزوج صغرى بنات خاله «كرم» مصطفى البكرى.

فى الطابق الأرضى من البيت كان يعيش خاله سلام مع أرفف كتب تغطى الجدران كان يحصل عليها من مكتبة صبيح القريبة بالمقايضة على حد تعبير هيكل الذى وجد فيها ثروة من كتب التراث والترجمات والأساطير الشعبية فراح ينافس خاله فى قراءتها.

وساهمت الأساطير الشعبية بالذات فى تنشيط الخيال الروائى لدى هيكل وأثرت فى أسلوبه.. بجانب أنه ورث موهبة الحكى من والدته السيدة هانم على حد ما سمعت من كرم ابنة خاله التى أضافت: إن عمتها كانت ساحرة وهى تروى للصغار الحكايات وكانت قادرة فى حديثها على شد الانتباه.

والمؤكد أن هيكل ورث جاذبية الحديث من والدته.. فهو بارع فى الحديث بسلاسة وخبرة فى السياسة وفى غيرها.. الموسيقى الكلاسيكية واللوحات التشكيلية وأنواع السيارات وموضات الثياب وتناسق الزهور.. مثلا.

فى الطابق الثالث من البيت كان جد هيكل لأمه يسكن فى شقة أمام شقة صغرى بناته هانم مع زوجها.. كانت زوجته الثانية لوالد هيكل.. وبينما فارق سن كبير.. أما زوجته الأولى السيدة صالحة فكان بعيدا عنها رغم أنه أنجب منها أحمد ومجاهد.. وحسب ما سمعت من هيكل فإنهما أضاعا ثروة الأب وتجارته فى أمور خاصة لم تنته بضياع المال فقط وإنما بفقدهما معا بعد إصابتهما بمرض فى الصدر.

لعبت الأم الدور الأكبر فى حياة هيكل.. كانت تجيد القراءة والكتابة.. بل تعرف اللغة الإنجليزية.. وأصول الحياة العصرية وساعدها على ذلك الزوجة الثانية لأبيها دولت هانم كما كانوا ينادونها.

وبسبب السيدة دولت تمنت هانم أن تتزوج أفنديا يضع طربوشًا على رأسه ويكون موظفا حكوميا كما حظيت شقيقاتها.. لكنها.. لم تجد الشجاعة فى التعبير عن رغبتها ووالدها يزف لها خبر زواجها من تاجر غلال أكثر ثراء من الأفندية وإن كان يرتدى الجبة والقفطان ولا يقرأ ولا يكتب.

ويروى هيكل لسناء البيسى: إنه وهو صغير كان يصل إلى مسامعه صوت أمه وهى تقرأ لأبيه فى كثير من الليالى سيرة الظاهر بيبرس والزير سالم والأميرة ذات الهمة وغيرها.. وكان هيكل يقاوم النوم حتى يكمل ما يسمع.

ويضيف هيكل: إن هذا الكلام كان يأتينى ويدخل رأسى ويفتح لى أشياء كثيرة ولكن أبى وأمى لم يكن فى بالهما أن كل هذا يؤثر فى.

إن هذا الكلام الذى كان يأتيه ويدخل رأسه هو الذى أثر فى أسلوب كتابته بالحبكة الدرامية والصياغة الأدبية ولو فى كتاباته السياسية.

ويلاحظ كل من يقرأ أعماله الصحفية الأولى أنها صياغات أدبية.. معلوماتها أقل من سحرها.. بما فى ذلك تغطيته لحرب فلسطين أو وباء الكوليرا أو خط الصعيد أو زيارة الملك فاروق لجنوب البلاد التى عبر عنها فى أول مقالاته على صفحات روز اليوسف «17 فبراير 1944» تحت عنوان إنه الفاروق وبعدها كتب مقالا مشابهًا فى عيد ميلاد الملك تفجر إعجابا به قبل أن يجهز عليه بعد ثورة يوليو.

والمؤكد أن كتاباته تعرفت على المعلومات بعد ارتباطه بجمال عبد الناصر حيث وضع أسلوبه المميز فى خدمة التعبير عنه وكانت البداية كتاب فلسفة الثورة.

ومن يومها عرف هيكل قيمة الارتباط برأس الحكم.. هناك يتاح له أن يعرف ما لا يتاح لغيره من أسرار ووثائق يستخدمها فى الوقت المناسب وحسب ما انتهت إليه علاقته بمراكز السلطة العليا.. خيرًا أو شرا.

كانت مغارة الوثائق التى حصل عليها من عبد الناصر والسادات سببا مباشرا فى نشر ما يكتب بلغات أجنبية.. وكان أولها كتاب وثائق القاهرة الذى نشره بعد رحيل عبد الناصر وكشف فيه عن خبايا احتفظ بها.. وحسب ما سمعت منه فإن عائد الكتاب.. المالى جعله يشترى شقة مكتبه التى تقع فى نفس طابق شقة مسكنه.

ولوحظ.. أن كتاباته الأخيرة لم تعد تلقى قبولا خارجيا.. فقد ابتعد طوال ثلاثين سنة حكم فيها مبارك عن السلطة.. فلم يعد يعرف الكثير عن كواليسها.. فخف الطلب الأجنبى عليه.. إلا على مستوى قناة الجزيرة.

أما نقطة التحول فى تعامل حكام مصر معه فكانت كتابه «خريف الغضب» الذى نشره بعد اغتيال السادات.. خشى مبارك ومن جاءوا بعده أن يقربوه منهم فيعرف الكثير عنهم فإذا ما اختلفوا معه ذبحهم بقلمه وبسكين قدموه إليه بأنفسهم.. سكين معلومات ومستندات ولقاءات المشورة بعيدا عن العيون.

ولغيابه عن دوائر السلطة العليا عقودا طويلة وجد هيكل أنه يمكن أن يسترد لقب صانع الحكام باقترابه من الرئيس محمد مرسى وجرت بينهما اتصالات وزيارات أزعجت التيارات المدنية التى حاول التوسط بينها وبين الرئاسة الإخوانية.. بل.. نسب إليه تحذير لتلك التيارات بأن حكم الجماعة مستمر ولن يسقط مما جعله عرضة لغضب شخصيات كانت مقربة منه مثل الدكتور حسام عيسى.. وما جعلنى أختلف معه.

ويحاول مريدوه تجنب هذه الفترة من حياته ويضغطون على ذاكرتهم لنسيانها كما سعى بنفسه لتغطية ما فعل بحملة علاقات عامة بخبرة وحنكة.

وما ضاعف من دهشتى بما فعل أننى أعرف كراهيته للحكم الدينى وسبق أن سألته فى حوار منشور معه عن تصوره للدين فقال: إذا كان هدف المجتمعات هو الاستقرار والترقى والتقدم فإن الدين كفل هذا مباشرة فى عصور معينة.. ولكن.. جاءت عصور أخرى فى الاجتهاد الإنسانى أضافت إلى تعاليم الدين الكثير من الثراء.. إن ذلك لم يحدث عندنا فقط وإنما حدث فى الدنيا كلها.. ونحن شأننا شأن غيرنا سرنا فى هذا التطور.. الدين موجود ركيزة لكن التجربة الإنسانية أضافت وبنت حوله الكثير.

وما لم يعرفه الكثيرون عن هيكل أن والده أراد أن يرسله للتعلم فى الأزهر.. وبالفعل دخل الأزهر عدة أيام.. لكن.. أمه كانت ترى مستقبله بطريقة مختلفة.. فاستغلت سفر الأب فى رحلة إلى السودان وأخرجت هيكل من الدراسة الأزهرية وألحقته بمدرسة خليل أغا التابعة للأوقاف الملكية وهنا عرف هيكل رفيق دراسة سيتفقان ويختلفان معا فيما بعد هو إحسان عبدالقدوس.

وفى سنوات هيكل الأولى شخصية بسيطة أثرت فى مستقبله الصحفى.. عم حامد.. حارس البيت الذى كان يصحبه من المدرسة إلى البيت حماية له من شر الطريق.

كان عم حامد واحدا من الجنود المصريين الذين حاربوا مع الجيش المصرى فى القرم بأمر من الخديو إسماعيل.. وكان معجبا بالشخصية البارزة فى التاريخ العسكرى محمود سامى البارودى الذى وصف برب السيف والقلم.

وحسب ما سمعت من هيكل فإن عم حامد له دين كبير فى رقبتى.. أثار فى خياله أشياء كثيرة بما كان يرويه من ذكريات فى شبه جزيرة القرم.. ولعله هو أول من حدثنى عن الحرب بما فيها من صدام إرادات لجأت للقوة المسلحة وبما فيها من جوانب إنسانية خفية لا يلتفت إليها الذين يديرونها عادة.

فجر عم حامد خيال هيكل عن الحرب.. وساهم دون أن يقصد فى صياغة مستقبله الصحفى فيما بعد.. عندما وجد هيكل نفسه متحمسا وهو فى بداية حياته المهنية لتغطية الحرب الدائرة فى الصحراء الغربية مساعدا لمراسل عسكرى ينشر تقاريره فى صحيفة الإجيبشيان جازيت خلال فترة الحرب العالمية الثانية.. أو مراسلا عسكريًا لصحف أخبار اليوم فى حرب فلسطين ونشر فيها سلسلة تحقيقاته عنها بعنوان النار فوق الحرب المقدسة.. وكانت تلك السلسلة بداية علاقته بالسلطات العليا.. فقد استدعاه بعد العودة من الميدان رئيس الحكومة وقتها محمود فهمى النقراشى ليسأله عما شاهد.. ولم تكن مصر قد قررت دخول الحرب بعد.

ليس من الصعب بعد ذلك أن نعرف حجم الدين الذى يعترف به هيكل لعم حامد.

على أن خيال عم حامد تجاوز حدود القتال والرصاص إلى ما هو أكثر خصوبة.. لقد كان مقتنعا بأن الثعبان عندما يعمر ألف سنة ويموت فإن عينيه تتحولان إلى نوع من الأحجار الكريمة.. ياقوت أو أل ماس مثلا.. وكان أن أقنع هيكل وهما عائدان من المدرسة إلى البيت أن يعرجا إلى جبل المقطم ليفتشا عن عيون الثعابين الثمينة التى يمتد عمرها ألف سنة.. ولم تكن المخاطرة أن يصادفا ثعابين عجوزة يحسب عمرها بالسنين وإنما يصادفا ثعابين شابة يحسب عمرها بالشهور.. تكون قادرة على الإيذاء.

دخل هيكل مدرسة التجارة المتوسطة فى عام 1935 وتخرج فيها ومصر تعيش اجواء الحرب العالمية الثانية التى اندلع لهيبها فى سبتمبر 1939 بهجوم هتلر على بولندا.. وفى ذلك الوقت تعرضت أسرة هكيل إلى متاعب مالية هزتها كثيرًا.

لقد تضافرت عناصر متشابكة جعلت هيكل يشعر بأن شهادة التجارة المتوسطة لا تكفى لتحقيق مستقبل يشعر به ولا يعرفه بوضوح.. وشجعه على تجاوز أزمته مستر براون أستاذه فى المدرسة.. فنصحه بدخول القسم الحر فى الجامعة الأمريكية.. واستجاب هيكل للنصيحة.. بل أكثر من ذلك راح يدرس اللغة الفرنسية فى القسم الحر فى مدرسة الليسية.

فى الجامعة الأمريكية جلس هيكل يستمع لمحاضرة عن عناصر الخبر الصحفى يلقيها سكوت واطسون الصحفى فى الإجيبشيان جازيت.. الصحيفة المصرية التى تصدر باللغة الإنجليزية.. وحين ختم الصحفى البريطانى محاضرته وجه دعوة لمن يريد أن يتدرب عمليا فى الصحافة أن يلقاه فى مكتبه وفى الصباح سبقه إلى المكتب أربعة شبان هم هيكل وميخائيل فلتس وإكرام عبد المجيد ويوسف صباغ.

كانت المهمة الصحفية الأولى فى حى مشبوه.. بدأها هيكل فى 8 فبراير 1942.. فى ذلك الوقت ألغى البغاء.. حماية لجنود الحلفاء فى مصر من الأمراض الجنسية.. وطلب من هيكل أن يذهب إلى أحد أحياء الدعارة ليسأل النساء اللاتى يحترفنها.. وكان عليه أن يأتى بصورة لكل منهن.

وما أن دخل البيت الأول حتى خرج منه كما يروى بنفسه مشيعا بسباب وصل إلى أجداده.. وعندما عجز عن تكرار المحاولة جلس على مقهى قريب ليستريح ويفكر.. وهناك لجأ إلى المعلمة شارحا لها مهمته فنادت على النساء لينفذ ما يريد بنجاح.

ومن تغطية أخبار الجريمة البشرية إلى تغطية أخبار الجريمة الإنسانية واصل هيكل صعوده المهنى ودعم ذلك تعرفه على محمد التابعى ومصطفى وعلى أمين فيما بعد.. وغالبية التفاصيل عن تلك الفترة متاح ومباح ولا يحتاج إلى تكرار.

وقبل أن تنفر العروق وتنفلت الأعصاب والأقلام باتهامات يشوبها الجهل فيما أذكر عن هيكل أسارع بالقول إننى سبق ونشرتها فى كتاب هيكل الحياة الحب والحرب الذى نشر فى نوفمبر عام 2000 وكان هيكل نفسه أحد مصادره.

لكن.. الأهم من تلك المعارك التى تنتهى بخسارة الجميع أن نتوقف لبعض الوقت لفحص أسطورة هيكل وتحليل مكوناتها وتحديد نقاط ضعفها مثل أى أسطورة أخرى.

إنه بالفعل نجح فى الصعود بذكاء فطرى دعمه بقدرة فائقة على التعلم والاستفادة من كل ما حوله إلى قمة الحياة الصحفية والسياسية وأصبح طرفا فى معادلات صراعات الكواليس.. رأسه برأس الكبار.

لقد كانت هناك وشايات محبوكة لضرب العلاقة المتينة بينه وبين عبد الناصر وصلت إلى حد أن فاجأه زكريا محيى الدين، أمام جمال عبد الناصر وبحضور الدكتور محمود فوزى بتوجيه سؤال له يتضمن تهمة الخيانة العظمى قائلا: ألم تقابل ديفيد بن جوريون يا أستاذ هيكل؟

ورد هيكل بسرعته المعهودة: الذى عرفنى عليه الدكتور محمود فوزى وزير الخارجية حينما كان قنصلا عاما لمصر فى القدس وهو جالس هنا الآن.. وقد كان ذلك فى وقت مبكر قبل إعلان دولة إسرائيل.

ودخلت مجموعات مقربة من جمال عبد الناصر مثل على صبرى وعبد الهادى ناصف فى معركة حادة ضد هيكل بمقالات كانت تنشرها جريدة الجمهورية قبل وفاة عبد الناصر.. وفيها تعرض هيكل لاتهامات لا حصر لها وصلت إلى حد الإيحاء بعلاقته غير المفهومة بدوائر أمريكية.. ولكن.. ما أن مات عبد الناصر حتى انحاز هيكل إلى أنور السادات ونجح فى إدخال هذه المجموعات الناصرية وغيرها السجن فى قضية ملفقة عرفت بقضية مراكز القوى فى 15 مايو 1971.

ولا شك أن هيكل نجح فى أن يطور نفسه بدأب وعمل لا ينتهى جعله ينتقل من مرتبة الصحفى إلى مرتبة المحلل والمفكر وإن اختلف معه كثيرون فيما يقول وفيما يصل من نتائج لم تكن فى أوقات متعددة صحيحة.

وكانت وسيلته فى غيابه عن السلطة الكتب السياسة الأجنبية التى كان يحرص على قراءتها أولاً بأول وكانت مصدرا متجددًا لمعلوماته بجانب لقاءات مع صحفيين عرفهم من قبل فى صحف بريطانية وأمريكية وفرنسية.

وكما نجح وهو قريب من السلطة نجح وهو بعيد عنها.. فالصحفى فى رأيه لا يفقد قلمه لو فقد منصبه.

وسعى هيكل بإحكام شديد إلى عزل حياته العائلية عن حياته العامة وحصر مناسباته الاجتماعية فى دائرة ضيقة من الأصدقاء والمعارف.. وهو ما لمسته بنفسى عندما دعانى إلى حفل زواج أصغر أولاده حسن فى محيط محدود داخل قاعة البلفيدير فى هيلتون النيل قبل أن يحمل علامة ريتز كارلتون.

ورغم احترافه الكتابة السياسية فإنه كان لا ينام إلا إذا عرف كل ما يجرى فى المجتمع من نميمة وأخبار خاصة ولذلك كان قريبًا من نجوم سينما مثل عادل إمام ونور الشريف وأحمد زكى وغيرهم.

وكان قادرا على ضبط أعصابه والاحتفاظ بما يملك من معلومات لينشرها فى الوقت الذى يحدده.. وكان يأخذ علىّ التسرع فى نشر ما اعرف من أخبار وأسرار أولاً بأول.. محذرا من سرقتها دون الإشارة إلى مصدرها.. ومع أن ذلك حدث كثيرا إلا أننى كنت أؤمن بأن حق القارئ فى معرفة ما يجرى أهم من الاعتبارات الأخرى.

بجانب أنه كان يختار نشر العديد من رواياته عن شخصيات رحلت عن عالمنا نسب إليها اتهامات كانت عاجزة فى عالمها الآخر عن تفنيدها والرد عليها بما يهز مصداقيته.. مثل اتهام عمر سليمان بمحاولة اغتيال مليس زيناوى الرئيس السابق للحكومة الإثيوبية ثلاث مرات.. وحدث ذلك بعد أن مات سليمان وزيناوى.. ومثل الإيحاء بأن عبد الناصر مات على إثر فنجان قهوة أعده له السادات بنفسه.. ومرة أخرى كانت كل أطراف القصة فى ذمة الله.

ولوحظ أن ما ينشر بلغة أجنبية يأتى مكثفًا مدعمًا بما يثبته فى حين تضخمت الطبعات العربية بمئات من الصفحات الزائدة فيها تناقضات واختلافات ما جعل كثيرا من الكتاب ينتقدونه بالمقارنة التى يمنحها لهم بنفسه.

وكان لا يرد على نقد يتعرض له بدعوى عدم التورط فى معارك يترفع عنها.. والحقيقة أن كثيرا من الانتقادات كانت من القوة بحيث لا يستطيع الرد عليها.. مثل الانتقادات التى وجهها الدكتور فؤاد زكريا فى كتابه كم عُمر الغضب؟ مستغلا كثيرًا من الثغرات التى وقع فيها هيكل وهو يكتب خريف الغضب.

لكن.. ذلك لا ينفى أننا أمام أسطورة بالفعل والاجتهاد وطول العمر واستخدام ما يتاح أمامه من وسائل وأشخاص وجدوا فى علاقته به نجاحا عوضهم عن فشل مهنى صارخ.. وهم أنفسهم ساهموا فى الترويج للأسطورة ردا للجميل.. مدركين أن سقوط الأسطورة فيه نهايتهم أيضا.. وهنا يلح سؤال ستجيب عنه الأيام والسنوات القادمة: ترى ماذا سيفعلون بعد رحيله عنهم قبل فراقه الدنيا كلها؟