منال لاشين تكتب: أسرار وكواليس ووصايا.. علاقة الأستاذ والسيسى
السيسى قابل هيكل بعد 24 ساعة من أزمة النجار مع السفير السعودى.. والرئيس عاتب الأستاذ على جملة فى آخر احتفال بعيد ميلاده
■ كانت قضية العفو عن شباب ثورة 25 يناير تشغل حيزا كبيرا فى لقاءاتهما غير المعلنة دوما
■ هيكل توسط لدى عدلى منصور لإقناعه برئاسة مجلس النواب بطلب من الرئيس
■ فى آخر احتفال بعيد ميلاده وجه انتقادات مباشرة لنظام الحكم.. وحذر من خطورة تفكك الجبهة الداخلية
■ كشف عن قيامه بالوساطة بين مصر وقطر خلال حكم الرئيس السيسى
لا أفضل كثيرا أن أصف أحدا بالأسطورة، لا الأستاذ هيكل ولا غيره، إن الأسطورة هى مزيج من الحقائق والأوهام والخيال، وفى كثير من الأحيان يصعب الفصل بين الحقيقة والوهم، وفى أحيان أخرى يستحيل التفرقة بين ما صنعه المرء بنفسه وجهده وإمكانياته من ناحية، وبين ما تضفيه أوهام الأسطورة عليه من ناحية أخرى.
بالنسبة لى الأستاذ هيكل هو ظاهرة إنسانية تاريخية، فى مثل هذه الظواهر يظل المرء فى هذه الحالة عصيا على الخروج من التاريخ حتى يصبح المرء نفسه ظاهرة إنسانية من ظواهر التاريخ، هيكل ينتمى لهذا النوع من الظواهر، ليس لأنه قضى 74 عاما بين الصحافة فحسب، ولكنه قضى أكثر من 60 عاما بين قمتين الصحافة والسياسة، سواء كان الأستاذ قريبا من الحكم أو مبعدا عنه، سواء كان النظام صديقا أم معاديا لهيكل، سواء كان هيكل شريكًا فى الحكم أو ناصحا له، فى كل الأحوال هيكل هو رقم مهم فى أسئلة ودوائر الحكم، رقم لا يمكن نسيانه أو الاستهانة بذكائه، وقدرته غير المحدودة على التحليل ورواية القصة التاريخية بطريقة لا تخلو من إثارة للجدل، وإن كانت تجبر حتى خصومه أو من اختلفوا معه على احترامه وعدم التقليل من شأنه أو بالأحرى خطورته، ولذلك لم اندهش حين حرصت كل الأطياف السياسية على تسجيل مشاركتها فى لحظة رحيله، إيران ترسل وفدا رسميا لتقديم العزاء، والملك سلمان ملك السعودية يجرى اتصالا هاتفيا بالأسرة لتقديم واجب العزاء، وأعتقد أنه من الصعب بل من المستحيل أن أكتب عن هيكل الظاهرة فى مقال واحد، ولكننى سأتحدث عن هيكل الإنسان وليس الظاهرة، وعلاقته بالرئيس السيسى وآرائه الأخيرة حول الرئيس ومؤسسة الرئاسة، والتى تحولت الآن إلى وصايا الأستاذ للسيسى.
1- نبوءة رحيل
أعتقد أن كبار السن يميلون إلى الشعور بقرب رحيلهم، وكأن أعينهم الغائرة بين عشرات التجاعيد الرفيعة تلتقط طائر الموت من مسافة بعيدة جدا، حتى قبل أن يحيط طائر الموت بهم، ويكتب لحظة الرحيل، ولذلك تتحول كلماتهم الأخيرة فى التصور الشعبى إلى ما يشبه الوصية، وعلى الرغم من أن هيكل لم يتحدث عن الموت كثيرًا أو قليلا، إلا أننى حين استعرض الأشهر الأخيرة من عُمر الأستاذ تجد بعضا من توابع الإلهام أو الإحساس بقرب الرحيل.
فى آخر حواراته مع لميس الحديدى أو حتى فى آخر احتفال بعيد ميلاده بمنزله، تلمس اختلافا فى طريقة هيكل فى التعبير عن آرائه، أو فى حدة هذه الآراء ذاتها، خاصة فيما يخص نظام الحكم فى مصر، وفى القلب الرئيس السيسى.
لقد كان من مبادئ هيكل ألا يتضمن حديثه ما يكشف درجة قربه أو بالأحرى علاقته بالرئيس السيسى، وهى قاعدة لازمته منذ علاقته الوطيدة مع الزعيم جمال عبد الناصر، ولكنه فى تلك المناسبتين الأخريين يتخلى عن هذه القاعدة، فى عيد ميلاده ويقول: «الرئيس مصدوم من حجم المشكلات التى تواجهها البلد ويشعر بالمرارة بعد اطلاعه عليها،.. ويجب أن يتجاوز تلك الصدمة» وفى لقائه الإعلامى الأخير: الرئيس لا ينام سوى ساعتين.
وفى هذا اللقاء تحدث هيكل بأقصى درجة من المباشرة والصراحة عن قطر وذلك مقارنة بكل ما قاله فى حواراته السابقة عن قطر، قال هيكل: الموقف القطرى هو رؤية من مشروع معين لم يستسلم بعد وهو مشروع أمريكى - تركى وأعضاؤه قطر وإخوان مسلمون، صحيح تلقى ضرباته وأحواله تأثرت ولكنه لا يزال قائما فالمشروعات لا تحزم حقائبها وترحل بهذه البساطة
2- دور الوسيط
فى هذا اللقاء كشف هيكل عن عودته لدور الوسيط بين الرئيس أو بالأحرى الدولة وأطراف دولية، وهو دور تعود هيكل القيام به ببراعة خلال فترة حكم الزعيم جمال عبد الناصر، فبعضا من زياراته الخارجية ولقائه بقادة دول كانت تتضمن رسائل رئاسية وفى لقائه الإعلامى الأخير حكى قصة لقاء بينه وبين السيسى حول قطر، وقصة الوساطة التى قام بها بأمير قطر من خلال الأميرة موزة، وكانت الوساطة تتعلق بالأموال القادمة من قطر لمصر وبقناة الجزيرة مباشر مصر.
وبحسب معلوماتى فإن هذه الوساطة لم تكن الوحيدة لهيكل فى عهد السيسى، وأن فثمة وساطات أخرى قام بها هيكل خاصة على الصعيد المحلى، فقد قام هيكل بوساطة لإقناع الرئيس السابق عدلى منصور لقبول رئاسة مجلس النواب من خلال التعيين، ولكن المستشار عدلى منصور رفض، وبالمثل توسط هيكل لعدد من الوزراء والمسئولين للقاء مباشر مع السيسى لعرض بعض القضايا المهمة والخطيرة، وبعض هذه اللقاءات كانت سابقة على تولى الرئيس السيسى السلطة، وبعضها لاحقا عليه، وجرت مناقشات بين الأستاذ هيكل وبين السيسى حول اختيار بعض الشخصيات كنواة لظهير سياسى للرئيس، ولكن السيسى لم يتحمس للفكرة ذاتها، وظلت نقطة اختلاف فى الرؤى حتى آخر لقاء بينهما، وحتى آخر إطلالة إعلامية للأستاذ هيكل.
وعندما تصاعدت حدة المطالبة بالإفراج عن شباب ثورة 25 يناير فى الأشهر الأخيرة قال أحد تلاميذ هيكل: «الوحيد الذى يستطيع إقناع الرئيس السيسى بالعفو عن شباب 25 يناير هو الأستاذ هيكل»
وكان هذا صحيحا إلى حد كبير، فقد كانت قضية العفو عن شباب ثورة 25 يناير محور موجود دوما فى لقاءات هيكل والسيسى، وكان رأى هيكل الثابت أن تصفية القضية تصب فى صالح الرئيس السيسى، وقد حصل هيكل على وعد من الرئيس بالعفو عن شباب الثورة خاصة بنات الاتحادية فى القائمة الأولى للعفو، ولكن العفو عن البنات تأجل للقائمة الثانية، ولذلك خرج أحد تلاميذ هيكل يعلن العفو عن البنات فى كل الفضائيات، اعتمادًا على ما دار فى لقاء هيكل والسيسى.
لم تكن الصحافة والإعلام أو بالأحرى أزماتهما بعيدة عن لقاءات هيكل والسيسى، فقد تدخل هيكل فى عدد من أزمات الصحافة لدى الرئيس، ومنها خناقة رئيس مجلس إدارة الأهرام الزميل أحمد النجار والسفير السعودى بالقاهرة أحمد القطان، فبعد الخناقة التى وصلت للتشابك بالأيدى بأقل من 24 ساعة جرى لقاء بين السيسى وهيكل، وبحسب معلوماتى فإن هذا اللقاء أنقذ النجار من خسارة منصبه.
وقبل هذه الأزمة نشبت أزمة كبرى بين النجار ومدير مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية الزميل ضياء رشوان، وكان ضياء نقيبا للصحفيين فى ذلك الوقت، وترك السيسى للأستاذ هيكل التدخل فى هذه القضية وإنهاء الأزمة.
كما تدخل هيكل مؤخرًا لضمان عدم العبث بمشروعات قوانين الإعلام التى أعدتها نقابة الصحفيين وغرفة صناعة الإعلام.
3- وصية وعتاب
فى احتفال أصدقائه وتلاميذه بآخر عيد ميلاد له قال هيكل رأيه فى آخر الاحتفال، رأى موجز ومنحوت على غرار عباراته، ولكن من أقوى وأكثر آرائه صراحة وبشكل مباشر جدا، قال هيكل: «لا تستطيع أن تستعيد سلطة جمال عبدالناصر بسياسات إسماعيل صدقى»، وقد أحدثت هذه الجملة دويا وعلق كثير من الكُتاب والسياسيين عليها، كما أحدثت نقاشا عاتبًا بين الرئيس السيسى والأستاذ هيكل، فإسماعيل صدقى هو صاحب القبضة الحديدية فى السياسة المصرية، وعلى الرغم من أن إسماعيل صدقى نُفى مع الزعيم سعد زعلول ورفاقه، إلا أنه انقلب على حزب الوفد ومبادئه وألغى دستور 23، واستبدله بدستور استبدالى هو دستور 30 ولكنه اضطر لإعادة دستور 23 مرة أخرى، وقد وقعت تجاوزات عديدة من الشرطة فى عهده، وصلت إلى اقتحام الشرطة للمدارس وإطلاق النار على مظاهرات الطلاب.
ولذلك كان من البديهى أن تثير جملة هيكل جدلا وعتابًا.
وفى حواره الأخير ألح هيكل على رأى أو بالأحرى وصية للسيسى، وقال: «اعتقد أن عليه أن يتشاور مع كل القوى وهذا ليس متأخرا وعليه أن يبحث عن عناصر جديدة وهى موجودة بالفعل)، وفى هذا الحوار تمنى هيكل ابعاد العواجيز عن المشهد، وألح فى مسألة مؤسسة الرئاسة ورجال الرئيس، وطالب الرئيس أو أوصاة بضرورة توسيع العاملين فى الرئاسة والانفتاح على القوى المختلفة فى المجمتع، وأعتقد أن هذه الآراء أو وصايا الراحل من المهم جدا أن يلتفت إليها الرئيس السيسى الآن، خاصة قصة بناء مؤسسة الرئاسة والتى كانت محل حوارات متعددة بين الرئيس السيسى والأستاذ هيكل.
قد أصدرت الرئاسة نعيا فور الإعلان عن رحيل الأستاذ، وكان النعى يفيض بالحب والتقدير معا للأستاذ، واعتقد أن أكبر تكريم وتقدير له أن يأخذ الرئيس السيسى برأى الأستاذ فى عدة قضايا، من أهمها إعادة بناء مؤسسة الرئاسة والاعتماد على شخصيات جديدة وإبعاد العواجيز عن المشهد، والعفو عن شباب ثورة 25 يناير، ولنبدأ بقائمة جديدة للعفو عن شباب الثورة، وأكثر ما أخشاة أن أكرر بعد شهر أو سنة نفس المطالب وأن أبدأ مقالى فى ذلك الوقت بكلمة هيكل الشهيرة «نحن أمة الفرص الضائعة»