عبد الحفيظ سعد يكتب: ضياع أحكام «النقض» وتجاوز النظام العام للدولة فى محاكمة «الخيال»

مقالات الرأي



مسلسل السجن فى قضايا الحريات والإبداع مازال مستمرا

الإسلامبولى: الحكم يخالف بشكل واضح نصوص المادتين «67» و71 من الدستور التى تحظر الحبس فى قضايا النشر

تتعدى قضية سجن الصحفى والروائى أحمد ناجى عامين، مجرد حبس صاحب رأى إبداعى، بل تتجاوز ذلك لأن الحكم يعد مخالفة واضحة لمبادى ونصوص دستور 2014 الذى وضع بعد ثورتين قام بهما الشعب المصرى لرفض الاستبداد وعدم العودة للخلف.

لكن الحكم الصادر من محكمة جنح مستأنف بولاق أبوالعلا، والقاضى بتوقيع أقصى عقوبة وردت فى قانون العقوبات فيما يخص تهمة خدش الحياء العام على الروائى، جاء منافيا تماما لنص المادتين «67» و«71» من الدستور اللتين تحظران بشكل قاطع الحبس وتوقيع عقوبة سالبة للحريات، فيما يخص أى عمل فنى أو إبداعى، ينشر، بل ألزم النص الدستورى الدولة بالحفاظ على حرية التعبير.

ورغم أن الدستور يعد الحكم والمنظم لأى قانون، ومرشداً لأى حكم قضائى، لكن ما جاء من أحكام مؤخرا، سواء قرار محكمة مستأنف الأخير ضد الروائى ناجى، وقبله إسلام البحيرى المحبوس حاليا بتهمة ازدراء الأديان، نتيجة بحثه عن تراث السلف، وكذلك الكاتبة فاطمة ناعوت الصادر ضدها حكم فى أول درجة بالسجن ثلاث سنوات، يضع تنفيذ مواد الدستور ومبادئه على المحك، خاصة أنه يبرز المخالفة الواضحة فى تطبيق مواد الدستور الذى استفتى عليه الشعب، كمبدأ يحكم الجميع سواء حكامًا أو محكومين أو قضاة.

فعندما وضع مشرعو الدستور الحالى بعد ثورة 30 يونيو، مبادئ ونصوصا، حرصوا على أن تكون تلك المواد ترجمة لمطالب ثورتين فى العيش والحرية والعدالة، خاصة أن ثورة 30 يونيو، خرجت فى الأساس لإسقاط نظام رجعى أراد عودة البلاد للخلف وسعى لطمس هويتها، لذلك جاءت مواده معبرة عن هذه النظرة المستقبلية للوطن.

وهو ما أكده الفقيه الدستورى عصام الإسلامبولى، مشيرا إلى أن الأحكام الأخيرة فيما يخص حرية الإبداع تخالف بشكل صريح مواد الدستور ومبادئه، مضيفاً أن محكمة النقض سبق لها أن وضعت أحكاما ومبادئ قانونية، أكدت أن مواد الدستور تنسخ «تلغى» أى مواد فى القانون تتعارض معها، وبالتالى لا يجوز صدور حكم قضائى لا يتوافق مع نصوص الدستور بشكل واضح وصريح، خاصة إذا كانت هذه المواد قابلة للتطبيق، وهو ما يتحقق فى الوقائع الأخيرة، سواء الخاصة بحبس الروائى أحمد ناجى أو الباحث إسلام البحيرى أو قضية فاطمة ناعوت.

واعتبر الإسلامبولى أن الحكم الأخير الخاص برواية «استخدام الحياة»، ينطبق عليه بشكل حرفى، ما ورد فى نصوص المادتين الدستوريتين، أولا لأنه عمل إبداعى فنى، وثانيا أنه إن نشر فى إحدى وسائل النشر، لا يجوز توقيع عقوبة الحبس فيه إلا فيما يخص بالدعوة للعنف أو التمييز أو الطعن فى أعراض الأفراد، وهو النص الواضح والصريح فى المادة «71».

لكن تظهر عدة مفارقات فى قضية حبس أحمد ناجى الذى يقبع الآن داخل السجن تنفيذا للحكم الأخير ضده، انتظارا للاستشكال المقدم للنائب العام من قبل نقابة الصحفيين، للمطالبة بوقف تنفيذ الحكم لحين فصل محكمة النقض فى القضية.. أولى هذه المفارقات أن السبب الذى استندت إليه النيابة العامة فى تحريك القضية، ليس بسبب روايته التى أثارت الضجة التى نشرتها إحدى دور النشر، بل السبب فى قيام صحيفة أخبار الأدب بنشر الجزء الخامس من الرواية فى أغسطس 2014. والغريب أنه طبقا لنص المادة «71» فى الدستور، فإنه لا يجوز إصدار عقوبة سالبة للحريات فى الجرائم التى ترتكب عن طريق النشر.

وجاء فى نص المادة: «لا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن فى أعراض الأفراد، فيحدد عقوباتها القانون». وتعنى هذه المادة أنه لا توجد عقوبة للحبس فى أى مواد تم نشرها، وحدد الدستور أن العقوبات تقتصر على الغرامة المالية، وهو ما جزم به الفقيه الدستورى عصام الإسلامبولى.

أما المفارقة الثانية فى القضية فهى أنه فى يناير الماضى، أى قبل شهر فقط حكمت جنح بولاق أبوالعلا (أول درجة) ببراءة الروائى أحمد ناجى وطارق الطاهر رئيس تحرير أخبار الأدب، باعتبار عدم وجود جريمة يعاقب عليها، خاصة أن الدستور كفل حرية التعبير.. لكن النيابة العامة فى بولاق أبوالعلا، قامت بالطعن مرة أخرى ضد الصحفيين أمام محكمة مستأنف بولاق أبوالعلا، مطالبة بتوقيع أقصى العقوبة عليهما، ليتم تداول القضية مرة أخرى أمام دائرة جنح مستأنف.

ورغم قيام دفاع أحمد ناجى بالتمسك بالدفع بعدم دستورية المحكمة لمخالفة ذلك لنص الدستور وهو ما أكده المحامى محمود عثمان الذى يتولى الدفاع عن الروائى ناجى، خاصة أنه سبق للمحكمة الابتدائية تبرئته فى أول درجة، غير أن محكمة المستأنف قامت بإصدار حكم بأقصى عقوبة وردت فى نص المادة التى تخص خدش الحياء العام للمجتمع، وهى المادة التى وضعت فى قانون العقوبات منذ الأربعينيات من القرن الماضى، وكان الغرض منها منع ظهور فتيات الليل فى الشوارع، أو القيام بفعل مادى فاضح فى الطريق العام، لكنه يطبق عقوبة المادة هنا فى وقائع النشر أو الإبداع، طبقا لما قاله المحامى محمود عثمان، الذى أشار إلى أنه كجهة دفاع لاحظ منذ اللحظة الأولى فى مسار القضية أن هناك حالة تعمد لمعاقبة الروائى، خاصة أن القضية تعد من قضايا الحسبة التى وصلت إلى النائب العام بناء على بلاغ من محام آخر رأى فى نص الرواية ما يعد خدشا للحياء العام، لكن الغريب أن النيابة العامة قامت بتحريك القضية، بل إن وكيل النائب العام كان لديه توجه لحبس المتهم أثناء سير التحقيقات، رغم أن ذلك يخالف نصا واضحا فى قانون النشر، أنه لا يجوز الحبس الاحتياطى فى قضايا النشر.

ويوضح المحامى محمود عثمان أن سرعة سير القضية أمام محكمة جنح المستأنف وعدم استجابة المحكمة للطعن على عدم نص دستورية لائحة الاتهام ضد المتهمين، جعل لدى الدفاع قناعة بأن هناك حالة من الإصرار على إصدار حكم سالب للحريات فى القضية، خاصة من قبل النيابة العامة التى طعنت مرة أخرى على حكم أول درجة القاضى بالبراءة.

لكن الغريب أن توجه المدعى العام فى قضية رواية «استخدام الحياة» المعروفة بمحاكمة «خيال»، يتناقض مع المبادئ التى سعت النيابة العامة على إرسائها على مدار التاريخ فيما يخص حرية الإبداع التى تعد أبرز ما حدث فى الثلاثينيات من القرن الماضى عندما فتحت النيابة العامة تحقيقًا فى بلاغ ضد الأديب طه حسين، بسبب كتاب «الشعر الجاهلي» ورغم أن وكيل النائب العام فى ذلك الوقت القاضى محمد نور، أظهر اختلافا مع ما جاء فى كتاب طه حسين، إلا أنه قام بإغلاق القضية وحفظ البلاغ بعد أن تناقش مع طه حسين فى التحقيق وسطر خلافه معه فى حفظ الدعوى.. لكنه اعتبر أن ما جاء رغم ما يعده البعض مخالف لأمور الدين، إلا أن لا يمكن أن يحاكم باحثًا عن رأيه.

لكن يبدو أن متسع حرية التعبير والأفق العام للتعامل مع الحريات بدأ يضيق فى مصر.. ويأتى ذلك رغم وجود نصوص دستورية واضحة تحمى هذه الحريات، لكن الوقائع التى تظهر حاليا سواء فى حبس ناجى أو إسلام البحيرى وفاطمة ناعوت، والتى تتوازى أيضا مع عمليات المطاردة لدور النشر والمبدعين، تنبه لخطورة التوجهات فى قمع الحريات والتوسع فى استخدام العقوبات السالبة للحريات فى قضايا النشر، ومحاولة تجاوز المبادئ التى وضعها الدستور، بل ومحاولة معاقبة خيال الكاتب والمبدع فيما يقول أو يكتب.