حقيقة قصة الصحابي الذي مشى النبي على أطراف أنامله عند دفنه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
كتب أحد الإخوة الأفاضل مقالاً ذكر فيه قصة لأحد الصحابة يدعى ثعلبة بن عبدالرحمن الأنصاري –رضي الله عنه- فلما قرأت القصة استنكرتها، لأنها أشبه بقصص الصوفية، وما يحكى عن الرهبان، ولما فيها من ألفاظ خارجة عن المعهودعن أحاديث الرسول –صلى الله عليه وسلم-، ولما فيها من معارضة للصحيح الثابت عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
وقد رجعت إلى المصادر الحديثية التي خرجت هذه القصة فوافق الواقع ما كنت متوقعه.
ووجدت أنها قصة مكذوبة موضوعة لا أصل لها فكتبت هذا التخريج بياناً للحق ونصحاً للمسلمين.
أسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
القصة
عن جابر بن عبدالله –رضي الله عنهما- أن فتى من الأنصار يقال له: ثعلبة بن عبدالرحمن أسلم، فكان يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعثه في حاجة، فمر بباب رجل من الأنصار فرأى امرأة الأنصاري تغتسل، فكرر النظر إليها، وخاف أن ينزل الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج هارباً على وجهه، فأتى جبالا بين مكة والمدينة فولجها، ففقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعين يوما -وهي الأيام التي قالوا ودعه ربه وقلى-،
ثم إن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن الهارب من أمتك بين هذه الجبال يتعوذ بي من ناري، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا عمر ويا سلمان انطلقا فأتياني بثعلبة بن عبدالرحمن)).
فخرج عمر ويا سلمان في أنقاب المدينة فلقيهما راع من رعاء المدينة يقال له: ذفاقة، فقال له عمر: يا ذفاقة هل لك علم بشاب بين هذه الجبال؟ فقال له ذفاقة: لعلك تريد الهارب من جهنم؟
فقال له عمر: وما علمك أنه هارب من جهنم؟
قال: لأنه إذا كان جوف الليل خرج علينا من بين هذه الجبال واضعاً يده على رأسه، وهو يقول: يا رب ليتك قبضت روحي في الأرواح، وجسدي في الأجساد، ولا تجردني في فصل القضاء.
قال عمر: إياه نريد.
قال: فانطلق بهم ذفاقة، فلما كان في جوف الليل خرج عليهم من بين تلك الجبال واضعا يده على أم رأسه وهو يقول: يا ليتك قبضت روحي في الأرواح، وجسدي في الأجساد، ولم تجردني لفصل القضاء.
قال: فعدا عليه عمر فاحتضنه، فقال: الأمانَ الأمانَ، الخلاصَ من النار.
فقال له عمر: أنا عمر بن الخطاب، فقال: يا عمر هل علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذنبي؟
قال: لا علم لي إلا أنه ذكرك بالأمس فبكى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأرسلني وسلمان في طلبك.
فقال: يا عمر لا تدخلني عليه إلا وهو يصلي، أوبلالاً يقول: قد قامت الصلاة. قال: أفعل، فأقبلا به إلى المدينة فوافقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في صلاة الغداة، فبدر عمر وسلمان الصف، فما سمع قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى خر مغشياً عليه، فلما سلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يا عمر ويا سلمان ما فعل ثعلبة بن عبدالرحمن؟))
قالا: هو ذا يا رسول الله، فقام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأتاه فقال: ((يا ثعلبة!)).
قال: لبيك يا رسول الله.
فنظر إليه، فقال: ((ما غيبك عني؟)).
قال: ذنبي يا رسول الله.
قال: ((أفلا أدلك على آية تمحوا الذنوب والخطايا؟)). قال: بلى يا رسول الله.
قال: ((قل: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)).
قال: ذنبي أعظم يا رسول الله. فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((بل كلام الله أعظم)).
ثم أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالانصراف إلى منزله، فمرض ثمانية أيام، فجاء سلمان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله هل لك في ثعلبة نأته لما به؟
فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((قوموا بنا إليه)).
فلما دخل عليه أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه فوضعه في حجره
فأزال رأسه عن حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( لِمَ أزلت رأسك عن حجري؟)).
قال: إنه من الذنوب ملآن. قال: ((ما تجد؟)).
قال: أجد مثلَ دبيب النمل بين جلدي وعظمي.
قال: ((فما تشتهي؟)). قال: مغفرة ربي.
قال: فنزل جبريل –عليه السلام- على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فقال: ((إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول: لو أن عبدي هذا لقيني بقراب الأرض خطيئة للقيته بقرابها مغفرة)).
فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أفلا أعلمه ذلك؟)).
قال: بلى. قال: فأعلمه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بذلك، فصاح صيحة، فمات.
فأمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بغسله وكفنه وصلى عليه، فجعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يمشي على أطراف أنامله، فقالوا: يا رسول الله! رأيناك تمشي على أطراف أناملك؟
قال: ((والذي بعثني بالحق نبياً، ما قدرت أن أضع رجلي على الأرض من كثرة أجنحة من نزل لتشييعه من الملائكة)).
تخريجه
رواه ابن شاهين -كما في الإصابة (1/405)- والشجري في الأمالي (1/149) وعثمان بن عمر الدراج في جزئه-كما في تنزيه الشريعة(2/285)- والخرائطي في اعتلال القلوب-كما في اللآلئ المصنوعة(2/260)- وأبونعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة (1/498رقم1410)، وفي حلية الأولياء(9/329-330) وابن منهد مختصراً –كما في الإصابة- وابن الجوزي في الموضوعات (3/346-349رقم1587) من طريق عن منصور بن عمار ثنا أبي عن المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر بن عبدالله –رضي الله عنهما- به.
الحكم عليه
هذه قصة موضوعة، علامات الوضع ظاهرة عليها. فالمتن فيه نكارة ظاهرة وكذا السند ففيه آفتان:
الآفة الأولى: منصور بن عمار الواعظ الزاهد: منكر الحديث.
قال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن عدي: منكر الحديث.
وذكره العقيلي في الضعفاء وقال: فيه تجهم. وقال الدارقطني: يروي عن ضعفاء أحاديث لا يتابع عليها.
قال أبوبكر بن أبي شيبة: كنا عند بن عيينة فجاء منصور بن عمار فسأله عن القرآن فزبره وأشار اليه بعكازه، فقيل يا أبا محمد إنه عابد، فقال ما أراه إلا شيطاناً.
الآفة الثانية: المنكدر بن محمد بن المنكدر: ضعيف.
وثقه أحمد، وقال ابن معين في رواية عنه: لا بأس به.
وقال ابن معين في الرواية الأخرى: ليس بشيء.
وقال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال أبو حاتم: كان رجلا صالحاً لا يفهم الحديث، وكان كثير الخطأ، لم يكن بالحافظ لحديث أبيه.
وقال أبوعبيد الآجري: سألت أبا داود عن منكدر بن محمد أهو ثقة ؟ قال: لا.
وقال الجوزجاني والنسائي والعجلي: ضعيف.
وروى له أبو أحمد بن عدي أحاديث؛ وقال: هذه نسخة حدثنا بها ابن قديد عن عبيد الله بن عبدالله بن المنكدر بن محمد عن أبيه عن جده عن الصحابة وغيرهم وعامتها غير محفوظة. قال ابن حبان: كان من خيار عباد الله ممن اشتغل بالتقشف وقطعته العبادة عن مراغاة الحفظ والتعاهد في الإتقان فكان يأتي بالشيء الذي لا أصل له عن أبيه توهما فلما ظهر ذلك في روايته بطل الاحتجاج بأخباره.
وأما نكارة المتن فمن وجوه عديدة منها: أن الصحيح المعروف عند أهل العلم والمتفق عليه بينهم أن سورة الضحى نزلت في مكة قبل الهجرة ومنها قوله تعالى: {ما ودعك ربك وما قلى}. وفي هذا الحديث زعم واضع القصة أنها نزلت وقت غياب ثعلبة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
ومنها: أن خادماً للرسول –صلى الله عليه وسلم- يبعثه النبي في حاجة ويغيب أربعين يوماً لا يتفقده حتى ينزل عليه جبريل ويذكره به، فهذا مخالف لما عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- والواقع يكذبه.
بل لما غاب ثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي –صلى الله عليه وسلم- أياماً قلائل بسبب آية في سورة الحجرات افتقده النبي –صلى الله عليه وسلم- وأرسل في طلبه.
ومنها: أن الذنب الذي ارتكبه ثعلبة لا يستوجب كل هذا الخوف والهرب فهو –على ما في القصة المكذوبة- أذنب بنظره إلى امرأة عارية فغاية ما يقال: إنه ارتكب كبيرة تذهب بالتوبة والندم، لا بالهرب بين الجبال، وترك الجمع والجماعات.
ففيه علاج الذنب بذنب أكبر منه وأعظم.
ومنها: أن ثعلبة خر مغشياً عليه لما سمع قراءة القرآن، وهذا ليس من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا فعله أحد من الصحابة بل قد أنكرت عائشة –رضي الله عنها- على من فعل ذلك من التابعين.
إلى غير ذلك من الأمور التي تشهد ببطلان هذه القصة أكتفي بما ذكرته.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد...