عبد الحفيظ سعد يكتب: شرف «أم الرجال» لا يلوثه تفاهة السبكى

مقالات الرأي



خشية أن تستغل قضية الطعن فى أعراض النساء كمقصلة لحرية التعبير

■ توقيت تحرك نواب الصعايدة بعد مرور شهرين من عرض البرنامج يضع علامات استفهام لإثارة القضية الآن

فى الدستور غير المكتوب فى صعيد مصر، وضعت المرأة فى مكانة خاصة فيه وتصدرت مواده الأولى، بأنها صاحبة المقام الرفيع، ست الدار، أم الرجال.. صورة لا يراها إلا من عاش هناك.. تخالف ما يعتقد البعض أن المرأة الصعيدية مكانتها تقل عن الرجل.. ففى أعراف الثأر الذميم، دم المرأة يقابله رقبتى رجلين، الأول حق الدم والثانى لرد الاعتداء على جسد الست.

ووضع القانون والعرف المرأة الصعيدية فى مكانة خاصة، ربما استمدت قوتها من أسطورة الأم الفرعونية إيزيس، آلهة الأمومة التى جمعت أشلاء الزوج أوزوريس وحافظت على الابن حورس.. قد تكون ترجمة الأسطورة الآن فى الدعوة بالشر المعروفة بالصعيد "يخرب بيت أبوك" والتى تعنى عند أهل الجنوب، هو موت سيدة الدار.. فالبيت لا يضيع بموت الزوج، لكنه "يخرب" بفقد الأم، فقتل أوزوريس وتقطيع جسده لـ22 جزءا، لم يغيّبه، لأن إيزيس كانت موجودة، فجمعته وأعادته للحياة.

لذا كانت ثورة الصعايدة العارمة، وغضبتهم الشديدة، ضد ما قاله ببلاهة، المدعو تيمور السبكى فى أحد البرامج الفضائية مع الإعلامى خيرى رمضان.. وطعن فيه المدعو السبكى فى شرف المرأة المصرية عامة وبخاصة الصعيدية، دون أن يحسب أو يقدر فلتة لسانه، متصورا أنها مجرد "إفيه" أو تعليق سمج يمكن أن يمر، ولم يقدر أن تتسبب كلماته التافهة فى ثورة لأهل الجنوب.

غضب الصعايدة، لم يكن داخل مصر فقط أو فى محافظات الصعيد، بل امتد للمصريين المغتربين فى الدول العربية، وهو ما ظهر فى مقاطع على مواقع التواصل الاجتماعى، باعتبار أن الطعنة تمسهم وتتعلق بالشرف وتمس المرأة التى ارتضت أن تشاركه فى رحلة كفاح، لا تقل فيها معاناتها عما يتحمله الزوج المغترب، بحثا عن لقمة العيش الحلال فى حياة الغربة التى اضطر إليها المصريون، صعايدة وفلاحين.

فالمرأة فى أرياف مصر والتى طالتها الكلمات التافهة لتيمور السبكى، تعد ظهر وسند الرجل وهو فى غربته، تحافظ على بيته وترعى أرضه وماله وتربى أبناءه، ترضى أن تعيش بعيدة عنه، تنتظره عندما يعود إليها.

لذلك كان غضب رجال الصعايدة والتى تحولت لمعركة قانونية، دعت النائب العام أن يفتح تحقيقا مع المدعو تيمور السبكى، بعد البلاغات التى تطالب بمعاقبته على كلماته التافهة. لكن الغريب أن الثورة التى سعى نواب الصعيد فى البرلمان، أن يستغلوها، وكأنها معركة حقيقية، رغم أن تصريحات السبكى التافهة (لا ينتمى لعائلة السبكى التى تعمل فى الإنتاج السينمائى) مر عليها ما يزيد على شهرين، لتضع علامات استفهام حول غرض وتوقيت إثارة الموضوع الآن، رغم أن القهر والألم الذى تعانى منه المرأة فى الصعيد ممتد منذ سنوات، ولا يقتصر على الكلمات التافهة من السبكى.

ولذلك يعد تحرك النواب سواء بالبلاغات أو الاستهجان فى محاولة منهم، ليلفتوا الأنظار، ومحاولة لصناعة بطولة وهمية، ليتهربوا من مواجهة مشاكل حقيقية يعانى منها إقليم الجنوب الذى يقع تحت براثن الفقر والمرض والبطالة فى فاتورة تتحمل المرأة الصعيدية أضعاف ما يتحمله الرجل، ليس فقط فى تدبير احتياجات البيت، بل الحفاظ على سمعته وشرفه وصيانة عرضه.

فمأساة المرأة فى الصعيد ووجعها مضاعف.. هى التى ضاع زوجها غرقا فى عبّارات الموت لرجال الأعمال، وحرق ابنها فى قطارات الإهمال، هى تتوجع من ألم المرض ومأساة الحرمان وضياع التنمية التى تضطر أن يهاجر الرجل ليبحث عن لقمة عيش بالحلال الذى ارتضى أن يعيشه مع زوجته، ويربى عليه أبناءه.

ربما تفتح كلمات "السبكى" التافهة جرحا، مازالت دماؤه تسيل، تتحمل فيه امرأة الجنوب الجزء الأكبر منه، وهى صامدة كـ"الوتد"، ترعى أرض زوجها الغائب، وتربى دواجنه، وماشيته، وتحافظ على كل مليم يجمعه، تقف كالرجل التى تركه خلفه مما يجعله يتحمل ألم الغربة.

لكن لا يعنى ذلك أن تتحول هذه الكلمات التافهة من السبكى أو غيره إلى طعن فى الحرية، أو أن تستغل كأداة لتكميم الأفواه، أو منع رأى.. يعاقب السبكى بكلماته التافهة والساقطة، ويعاتب خيرى رمضان على عدم الرد عليه أو لاستضافته شخصية بلا أى معنى سوى أنه صاحب صفحة على فيس بوك.

لكن لا يعنى ذلك أن تستهدف حرية التعبير وتتحول الحادثة لمقصلة للرأى.. بل لابد أن تتحول إلى فتح ملفات الصعيد المقهورة.. فصيانة شرف وكرامة نساء الصعيد، يحتاج منا لأن ننظر لمعاناتهم ولطريقة نعالج بها مشاكلهم، ليعيشوا بكرامة دون "مرمطة" الغربة.. فغلق النوافذ فقط يحمينا من استنشاق التراب..!