عادل حمودة يكتب: أحزان شخصية فى رسائل سياسية
غابت الحرية فهزمت الدولة الناصرية
■ يا سيدى السلطان ما قيمة شعبك إذا كان نصفه ليس لديه لسان؟
■ أصبحنا نخاف الكلام فى المنتديات والتليفونات خشية فضائح التسجيلات
أخشى أن تصبح الحرية كلمة سيئة السمعة.. نتهمها بالكفر.. أو العهر.. أو التآمر.. فنسارع بوضع الحديد فى يديها.. ونسد بشريط بلاستر شفتيها.. ونكسر أصابعها حتى لا تكتب وصيتها.
الحرية.. عصا سحرية ترسم تقاطيع وجوهنا.. وطول قامتنا.. ولون عيوننا.. وملامح وجوهنا.. وجرأة ألسنتا.. ومستقبل بلادنا.. وشكل نظامنا.. ويكفى أن نمسك بها حتى تتغير تركيبة دمائنا.
لكننا.. حولناها من عصا سحرية إلى عصا أمنية.. تشل اللسان عن التعبير.. والعقل عن التفكير.. والتصرف عن التدبير.
لنفقد خصائصنا.. وتفردنا.. ومواهبنا.. وخرائطنا.. وسمعتنا.
لنحشد جميعا فى طابور.. ننام ونستيقظ بأمر الباشا المأمور.
كل ما نحلم به ونسعى إليه حفنة من العلف.. منتهى الصلف.
الصوت الجميل ينحشر فى الحنجرة.. ليصبح الغناء نوعا من البكاء.
الريشة المبدعة تجف من موت الألوان.. فالحياة جرداء.. واللوحة سوداء.
النكتة اللاذعة تستقبل مشيعيها فى سرادق عزاء.
الاجتهاد الذى أوصانا به الدين يفقد اليقين.. وينتهى أصحابه إلى الزنازين.
الدولة القوية.. المتينة.. تهددها وتفتتها وتفرقها الهزيمة.
لم تحتل مصر فى يونيو 1967 بسبب ضعف جيشها أو نقص عتادها وإنما بسبب القسوة التى فرضها عليها حكامها.
عجز السياسيون والمحللون والاستراتيجيون عن تفسير ما جرى فى تلك الأيام الحزينة ونجح شاعر مثل نزار قبانى فى تشخيص الجريمة بكلمات جريئة.
لقد تورطنا فى الحرب بلغة فاشية.. قديمة.. دون أن نفك الخط فى كتب الحرية المثيرة.. دون أن نلفظ فكر العبودية الذى قادنا إلى تلك الجريمة.. وجعل منا أمة جريحة.. لنصبح خبرا فضيحة فى صحيفة قديمة.
خلاصة القضية.. توجز فى عبارة.. لقد لبسنا قشرة الحضارة.. والروح جاهلية.
يزيد: جربوا أن تكسروا الأبواب.. أن تغسلوا أفكاركم.. وتغسلوا الأثواب.
ويعيد: جربوا أن تقرؤوا كتابا.. أن تكتبوا كتابا.. أن تزرعوا الحروف والرومان والأعناب.. الناس خارج السرداب يحسبونكم نوعا من الذباب.
ويضيف: لو أحد يمنحنى الأمان.. لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان.. قلت له: يا سيدى السلطان كلابك المفترسة مزقت ردائى.. ومخبروك دائما ورائى.. عيونهم وأنوفهم وأقدامهم ورائى.
ويكرر: كالقدر المحتوم كالقضاء.. يستجوبون زوجتى.. ويكتبون عندهم أسماء أصدقائى.. يا حضرة السلطان لأننى اقتربت من أسوارك الصماء.. لأننى.. حاولت أن أكشف عن حزنى.. وعن بلائى.. ضربت بالحذاء.. أرغمنى جندك أن آكل حذائى.
ويستطرد: يا سيدى السلطان.. لقد خسرت الحرب مرتين لأن نصف شعبك.. ليس له لسان.. ما قيمة الشعب الذى ليس له لسان؟.. لأن نصف شعبنا محاصر كالنمل والجرذان.. فى داخل الجدران.
ويصرخ: لو أحد يمنحنى الأمان من عساكر السلطان.. قلت له: لقد خسرت الحرب مرتين لأنك انفصلت عن قضية الإنسان.
منذ تلك السنوات البعيدة الممتدة إلى الوراء نحو نصف قرن شخصنا فى كلمة واحدة الداء.. القهر.. اعتبرناه الأشد خطورة بين أصناف الأعداء.. لكننا.. تجاهلنا عن عمد تقبل الدواء.. أو قضية الإنسان.. فسقط فى مستنقعات الفشل رغم حسن النية وسلامة القصد سلطان بعد سلطان.
ما أن أصبح جمال عبد الناصر زعيما شعبيا يمشى وراءه الناس منومين بسحر كلماته حتى سجن كل التيارات.. بنى مصانع ومدارس وجامعات ومؤسسات ومستشفيات.. لكنه.. ضاعف أيضا عدد المعتقلات.
هل كلما أطعمنا فما أسكتنا صوتا؟
ألم يكن ثمن ضياع الأرض انتهاك العرض؟
هل يموت العبيد حماية للحدود؟
ألم يكن جلادو التعذيب والتشويه والتحطيم من جعل اليهود يتسللون كالنمل الأسود تحت جلودنا؟
قانون شهير ينافس سريان النيل: كلما زادت شعبية الحكم زادت مساحة الظلم؟.
وبدأ أنور السادات عهده بالتغزل شعرا فى البشر.. لكنه.. أنهاه بضرب واعتقال كل القوى السياسية والحزبية والدينية والصحفية والفكرية فى حملة شرسة أكثر شدة من القضاء والقدر.
سمح باستيراد كل السلع الخارجية من الشطة إلى الشيكولاتة.. ومن السمك المجمد إلى الزيتون المجعد.. ومن المثلجات إلى الغسالات.. لكن.. رجاله وقفوا بالمرصاد أمام دخول الكتب والأفلام والأفكار التى تنتصر للحريات.. ووضعوها على قائمة الممنوعات.. أسهل فى هذا الوطن الوصول إلى المخدرات.
إن الشعوب التى بنت الناطحات حفظت المعلقات.. وقبل أن تصل إلى الرفاهية مشت بصرامة وجدية على خط الديمقراطية.. فالخبز يصبح طعاما عفنا فى المجتمعات الديكتاتورية.
وجاء مبارك ليجثم على صدورنا عشرات الأعوام.. وحسبنا رحيله بالثوانى والساعات والأيام.. لكنه.. فى عزبة السلطة العائلية وضع الكفاءات فى توابيت.. ليمنح ابنه وهم التوريث والتثبيت.
واليقين أنه جعل من النهب نوعا من الصيد الثمين.. لم يتوقف على مدار السنين.. وتضاعف يوما بعد يوم عدد المعدمين.. ولم تعد البلاد ملاذا للتائهين.. وتمنينا أن نستيقظ ذات صباح لنجد فى قصر الرئاسة أمير المؤمنين.
وفى ثورة يناير خرجت الميادين تطالب بتحطيم الزنازين.. لكن.. المناضلين الغاضبين أصبحوا يائسين.. محبطين.. متألمين.. وسرق الحلم القديم من عيونهم من ادعوا أنهم وكلاء رب العالمين.. ليصفوا المخالفين والمعارضين والمستسلمين بالتكفير والسباب والسكين.. فلم يقل لهم أحد آمين.
باعوا الفتوى فى المزاد.. حرقوا المساجد والكنائس والبيوت وشهادات الميلاد.. شطبوا الأسماء.. رجموا النساء.. فرضوا علينا سياسة الجراد.. وكانت حجتهم أنهم وحدهم من يتحدث باسم السماء.
وخرجت ثورة أخرى فى يونيو التالى لحكمهم.. تطردهم من الجنة فى سنة الحنة.. حاصرهم اللهيب.. وسأل الشعب بصوت الرحيل: هل من مجيب؟
وجاء نظام صديق ليعوضنا كبت الأيام.. لنحقق معه الأحلام.
لنعيد لنهر الحرية حق العودة للجريان.. وليسمح لكل عصافير الدهشة والكلمة واللقطة واللوحة والقصيدة والسيمفونية بالطيران.. لكن.. خرج من بيننا من يحرقها بالنيران.. مهددا بالطوفان.
تحريض بالليل على الفضائيات.. ولكمات بالنهار تخرج من بين سطور المقالات.. وخرجت جحافل الإلكترونيات تطالب برؤوس النكات والكاريكاتيرات.. وحشت اللغات بالمتفجرات.. وصبوا على كل من يبتكر أو يختلف فى تفسير المفردات.. اللعنات.
اقتلوا إسلام بحيرى فقد اجتهد.. شوهوا فاطمة ناعوت فقد طغت.. احبسوا رسام الكاريكاتير إسلام جاويش فقد تجاوز.. أدينوا رنا السبكى فقد خدشت الحياء.. والمجد للأولتراس.. حرقا وسبا وتهديدا ووعيدا.
أصبحنا نخاف الكلام فى المنتديات والتليفونات.. نزعنا منها البطاريات.. لم نعد نعرف من أين تأتينا الضربات.. كفنا ألسنتنا بالصمت خشية الفضح بنشر التسجيلات.
نسينا حربنا المقدسة فى سيناء على الأشباح السوداء.. وتفرغنا لتدمير الأسوياء.
نوع جديد من القمع.. جعل من رموزنا أوهاما من شمع.. فخسرنا الكثير من المواهب.. استدنا لرتبيتها وتعليمها وتدريبها بكمبيالات مستحقة الدفع.
لقد ظهرت من جديد كتائب الحسبة.. فرضوها علينا من اليمين إلى الشمال.. ليمزقوا حبال الود والوصال.
سحقوا بها فضيلة الحوار.. استخدموها باللعب وراء الستار.. والغوا بها طلوع شمس النهار.
هل بعد ذلك كله لا نعرف أعداء النظام؟
مرة أخرى.. عندما قتلنا بهمجية وعنصرية ومذهبية وقبلية ووثنية.. سيدة كونية اسمها الحرية.. تصدعت الدولة المصرية.. فهل نعيد لها الجنسية؟
للمرة المليون.. الكلام المليان يبدأ باحترام حقوق الإنسان.
للمرة المليار تقوى الأمم بالخيال والاجتهاد والتفكير والتعبير والابتكار.. لا بالطبلة والمزمار.
عادل حمودة يواصل «عملاء تحت عمائم» قريباً