عادل حمودة يكتب: عملاء تحت عمائم «3»
مخابرات بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا تخترق تنظيم الإخوان ومرشدهم يخترق تنظيم الضباط الأحرار
لو لم يؤمن العرب بالإسلام لظلوا تحت خيامهم المتواضعة فى الصحراء.. بفضل الإسلام خرجوا إلى العالم.. ودخلوا التاريخ.
لم يكن الإسلام بالنسبة لهم رسالة من السماء فقط وإنما نجدة من السماء أيضا.. حسب ما لخص الدكتور جمال حمدان العلاقة بين العقيدة والجغرافيا.
ولو كانت مصر ــ حسب حروف النور التى صاغها الشيخ متولى الشعراوى ــ قد صدرت الإسلام إلى العالم ودافعت عنه بسلاحها وعلمائها وأزهرها فإنها فى الوقت نفسه وقعت فريسة لكل مستعمر غازل مشاعرها الدينية.
لقد ادعى الإسكندر الأكبر أنه ابن آمون فاستقبله المصريون بالزهور والسجود ووفر على جيشه 20 ألف مقاتل كان سيفقدهم لو لم يستخدم تلك الورقة الدينية الرابحة.. واستفاد من خبرته نابليون بونابرت قبل حملته الشهيرة على مصر فقدم نفسه لشعبها على أنه جاء لينقذ الإسلام من فساد المماليك.. واعتبر شيوخ الأزهر وقتها هم مجلس الحرب المساند لتطلعاته الاستعمارية.. وإن انتهى به الحال إلى دخول الأزهر بخيوله.. محطما ومدنسا.
لكن.. لو كانت مصر حمت الإسلام ودعمته ونشرته فإنها أيضا تسببت فى كثير من المتاعب للمؤمنين به ولغير المؤمنين به عبر شبكات جماعة تأسست على أرضها عرفت باسم الإخوان المسلمين.
فى مرجعنا الرئيسى لعبة الشيطان ينسب مؤلفه روبرت دريفوس الإخوان إلى بريطانيا ويطلق على الجماعة إخوان بريطانيا.. مؤكدا تسمية عاصمتها لندنستان.
لقد جاهدت بريطانيا ــ بعد الحرب العالمية الأولى ــ فى الحفاظ على إمبراطوريتها.. ودخلت فى عشرات الصفقات مع طابور طويل من الشياطين.
فى عام 1928 ظهر فى مصر مدرس يدعى حسن البنا.. أسس جماعة الإخوان المسلمين.. المنظمة التى سوف تغير مجرى تاريخ الشرق الأوسط حتى اليوم.
لقد كانت الجماعة ثمرة النمو المباشر لحركة الإسلام الشمولى التى أوجدها الأفغانى ومحمد عبده.. لكن.. المؤثر المباشر فى مؤسسها كان شيخا سوريا تلقى تعليمه فى طرابلس اللبنانية وجاء إلى مصر عام 1897 هو الشيخ رشيد رضا.
ما أن وصل رضا إلى القاهرة حتى التصق بمحمد عبده ليصبح تابعه ومسانده فى دار الإفتاء وقت أن رأسها.
فى عام 1898 أصدر رضا مجلة المنار.. أسبوعية من ثمانى صفحات.. دعت للعمل فى العلن على عكس دعوات الأفغانى وعبده التى كانت سرية.. ماسونية.. طالب رضا بإنشاء الرابطة الإسلامية محددا مركزها فى مكة على أن تنتشر فروعها فى جميع البلدان الإسلامية.. لكنه.. لم يستطع إنجازها.. وبقيت هذه المهمة فى انتظار حسن البنا.. على أن رضا مهد له بتأسيس جمعية الدعوة والإرشاد.. بدعم من المندوب السامى البريطانى اللورد كرومر صديق محمد عبده.
كانت المنار دائمة الهجوم على الحركة الوطنية الناشئة فى مصر واعتبر رضا كل المنتمين لها ملحدين وكفرة.
وفى مواجهة الحزب الوطنى حزب مصطفى كامل ومحمد فريد فيما بعد أسس شيوخ جمعية الدعوة والإرشاد ــ التى مولها أغنياء عرب فى الهند وضمت طلابا من ماليزيا وإندونيسيا وشرق إفريقيا يدرسون فى الأزهر ــ حزب الشعب من اتباع محمد عبده ورشيد رضا.. ودعم الاحتلال البريطانى الحزب ليواجه به الأحزاب المطالبة بالتحرر منه.
فى تقريره السنوى عام 1906 كتب اللورد كرومر: إن الأمل الرئيسى للوطنية المصرية بالمعنى الحقيقى والعملى للكلمة يعتمد فى رأيى على هؤلاء الذين ينتمون لهذا الحزب.
كان البنا التابع الأمين لرضا.. ولكنه تفوق عليه بتأسيس جماعة سيعلن أحفاده فيها حربا إرهابيا نشهدها فى القرن الواحد والعشرين.. سنجدهم فى كل مكان على خريطة الدنيا.. فى مكتب المدعى العام السودانى.. فى ميادين المعارك الأفغانية ضد السوفيت.. فى معسكرات تدريب حماس على أطراف غزة.. فى حكومة ما بعد صدام العراقية.. فى داعش.. دون أن ننسى بصماتهم فى هجمات نيويورك وباريس ولندن وغيرهما من العواصم غير الإسلامية.
خرجت الجماعة إلى حيز الوجود بمساعدة مالية مباشرة من شركة قناة السويس (500 إسترلينى) بنى بها البنا مسجدا فى الإسماعيلية التى ستصبح مركزا لقيادة الإخوان وقاعدة لعملياتهم.
حسب كاتب سيرة الجماعة جون ميتشل فإن البنا كان يرى العلاقة بين الأفغانى وعبده ورضا علاقة مباركة.. كان البنا يرى الأفغانى داعيا.. وعبده مجددا.. ورضا مؤرخا.. الأفغانى يشخص المشكلة ومحمد عبده يفكر فى علاجها ورضا يكتب ويوثق ما ينتج عنهما.
توقفت المنار بعد وفاة رضا عام 1935 ولكن البنا أعاد إصدارها فى عام 1939 عرفانا بجميله.
وفى الإصدار الجديد أساء البنا شعار القرآن دستورنا الذى تبناه لينفى على الحركة الوطنية سعيها الدائم نحو الجلاء والديمقراطية.
ووصف البنا حركته بأنها رسالة.. سلفية.. سنية.. حقيقية.. صوفية.. ومنظمة دينية.. وجماعة رياضية.. وشركة اقتصادية.
لكن.. الحركة سرعان ما أضيف إليها وحدات شبه عسكرية.. بدأت بفرق الجوالة عام 1936 بنفس أسلوب تشكيل الحركات الفاشية فى أوروبا.. وفيما بعد سميت الوحدات بالكتائب.. وكان تواجدها فى مصر منظما متوعدا مطلقا للبنا.. وفى عام 1937 ــ فى حفل تتويج الملك فاروق ــ عهد إلى بلطجية الإخوان تأمين الأمن والنظام خلال الحفل.
انحاز البنا من اللحظة الأولى للملك ووثق علاقاته مع النخبة المحيطة به فى القصر ليحصل على دعم مالى وسياسى.
ودخل البريطانيون اللعبة.. حسب جويل جوردن الخبير فى الجماعة فإن البنا طور علاقاته مع اثنين من كبار المسئولين النافذين إلى القصر وهما رئيس الحكومة على ماهر وهو داعية متحمس للإسلام الشمولى والفريق عزيز المصرى قائد الجيش وكانت قنوات الاتصال بهما سرية بجانب صلات عديدة بالقصر.. خاصة الطبيب الخاص للملك يوسف رشاد.. وكثيرا ما كان الملك يستشير البنا فى اختيار رؤساء الوزراء.. وكثيرا ما تلقى دعوات لحضور الاحتفالات الملكية.
يقول ميتشل: من الواضح أن الجماعة كانت أداة تستخدم ضد اليسار والجناح اليسارى فى الوفد أما الجناح اليمينى «الرأسماليون وملاك الأراضى» فكان يعتبر الإخوان حلفاء لهم بينما التيار الأساسى للوفد فاعتبرهم قوة رجعية.
وخلال الحرب العالمية الثانية كون الإخوان جهازهم السرى الذى راح يجمع معلومات عن المنشآت العسكرية والسفارات الأجنبية والمكاتب الحكومية مما منح الجماعة سمتها الجديدة كمنظمة إرهابية.
إن الجماعة ستثبت بما سينفذ تنظيمها السرى من تفجيرات واغتيالات أنها مثل الحية التى لن تتردد فى لدغ من يدفئها.. ستثبت أنها تتمسكن حتى تتمكن.. أنها تتحالف مع الأقوياء حتى تتحين الفرصة للانقلاب عليهم.. وستنقل هذه الصفات إلى كل التنظيمات الدينية والإرهابية التى ستخرج من رحمها.. فالتنظيمات التى اغتالت أنور السادات ساهم هو نفسه فى خلقها وتقويتها.. والتنظيمات التى نفذت هجمات سبتمبر دعمها الأمريكيون خلال الحرب على السوفيت فى أفغانستان.. مثلا.
بل.. إن الإخوان لم يترددوا فى الهجوم على المعسكرات البريطانية فى الإسماعيلية.. نفس المدينة التى مولوا فيها إنشاء الجماعة.
لقد درب الإخوان على التقية.. ليظهروا فى ضعفهم ما لا يبطنون.. وليتحالفوا مع خصومهم حتى يتمكنوا.. لقد عشنا ذلك بعد ثورة يناير.. ساندوا أنصارها حتى قضوا عليهم.. ودعموا المجلس الأعلى للقوات المسلحة حتى انقلبوا على قياداته بعد وصولهم إلى السلطة.. وتحدثوا عن المشاركة.. لكنهم.. فرضوا المغالبة فى اللحظة التى شعروا فيها بقوتهم.
وحسب لعبة الشيطان فإنه مما لا شك فيه أن غالبية الإخوان كانوا يسعون جاهدين إلى قيام دولة دينية يمينية.. كانوا يعارضون بقوة الإمبريالية.. لكن.. قيادتهم مارست لعبة السياسة على أعلى مستوياتها.. تعاونت مع الملك والأحزاب العلمانية والجيش والاستعمار البريطانى.. غير أنه ليس معروفا بشكل مؤكد ما إذا كانت تلك القيادات مؤمنة بحق وعازمة على جعل الصفقات التى تبرمها مع شياطين العالم الكبار مؤقتة أم دائمة؟.. والأهم.. هل كانت تلك القيادات ماكرة أم عميلة للقوى الأجنبية؟.. على أنه لم يكن هناك سوى شك ضئيل بينما كان بعض قادتهم مخلصين حقا فإن البعض الآخر كان بوجهين.. ويصعب تبرئته من تهمة العمالة.
لم يستقر الإخوان فى تاريخهم الطويل سوى فترات قصيرة محدودة.. وعاشوا أغلب سنواتهم فى مأزق سياسى حرج.. فجناحهم العلنى ونجومهم السياسيون ــ وبشكل خاص البنا نفسه ــ خادم الملك والجنرالات بينما انشغل جناحهم السرى بالتجسس والاغتيالات.
وطالما كان عنف الإخوان موجها نحو أعداء الملك وبريطانيا فإنهم مارسوه دون خشية من عقاب إلا أنهم حين يتخطون الخطوط الحمراء ــ كما شأنهم بين الحين والآخر ــ فإن الحكومة كانت تشن عليهم الحملات وتحظر نشاطهم بشكل مؤقت.
وفى أحيان أخرى كان القصر أو الجيش يرى أن ثمة فائدة فى ذلك طالما كان النظام قادرا على تحمل قوتهم بل وكان يدعمها.
أسس التنظيم السرى (أو الخاص) عبد الرحمن السندى عام 1942.. وسيظل لمدة اثنتى عشرة سنة تالية يتصرف كمنظمة إرهابية مسئولة عن التفجيرات والاغتيالات حتى سحقها جمال عبد الناصر بعد محاولة قتله فى المنشية عام 1954.
كان ذلك التنظيم مسئولا عن اغتيال قضاة وضباط شرطة وشخصيات حكومية مؤثرة بجانب حرق وسلب مؤسسات يهودية مصرية وهجمات بالقنابل على نقابات عمالية وأحزاب يسارية.. إنه السيناريو نفسه الذى كررته فيما بعد تنظيمات إرهابية مشابهة.. فشجرة الحنضل لا تثمر سوى المر.
ولخبرة المخابرات البريطانية العريقة على مدى قرنين فى المجال السياسى الدينى والقبلى أدركت قوة الحركة الإسلامية.
اعترف أحد ضباطها وهو ديفيد آرشى بويل ــ كان على اتصال برئيس الديوان الملكى أحمد حسنين ــ بأنه استشعر دمدمة الغليان الصادرة عن قوة الصحوة الإسلامية التى بدأت عام 1946 مما جعل أجهزة بلاده السرية على اتصال منتظم بجماعة البنا.
بعد الحرب العالمية الثانية شن الملك فاروق المتداعى حملة ضد اليسار وعلنا قام إسماعيل صدقى باشا ــ الذى عين رئيسا للحكومة بمساعدة البنا ــ بتمويل الإخوان وأعد لهم معسكرات لتدريب قواتهم الصدامية وأيد الإخوان حملته الساحقة ضد اليسار وعضدوها بحماس.
فى ذلك الوقت حاول أنور السادات ــ بعلاقته بيوسف رشاد طبيب الملك ــ تدبير لقاء بين الملك والبنا لكن اللقاء لم يتم غير أن السادات اتفق مع البنا ــ فيما بعد ــ على دعم تنظيم الضباط الأحرار وراح المرشد الأول للجماعة فى تجنيد أعضائها للتنظيم السرى الذى تكون فى الجيش.
لم يعرف أحد هل فعل البنا ذلك دعما للتنظيم أم اختراقا له؟.. لم يعرف أحد الإجابة حتى الآن.. لكن.. المؤكد أن الإخوان لعبوا على المسرح السياسى بأكثر من وجه.. فهم حركة وعقيدة وتنظيم ووحدة مخابرات وفرق موت.. لذلك لم يكن غريبا أن تخترقهم المخابرات البريطانية والسوفيتية والألمانية فى وقت واحد.
فى الخمسينيات عندما ألقى عبد الناصر القبض على زعماء الجماعة اكتشفت أجهزته الأمنية إلى أى مدى كانت علاقات تنظيمها معقدة.
يعلق مايز كوبلاند مسئول المخابرات المركزية فى مصر قائلا: عند استنطاق منظمى الجماعة وجد أن التنظيم مخترق من القمة من قبل المخابرات البريطانية والأمريكية والفرنسية والسوفيتية وكل منها كان يستطيع أن يستخدمه أو ينسفه من الداخل حسبما يلائم أغراضه.
وفى الوقت الذى شعرت فيها الجماعة بأنها تضرب من عبد الناصر داخليا بدأت هجرتها إلى الدول العربية النفطية المحافظة لتؤسس لأول مرة تنظيمها الدولى فاتحة صفحة جديدة فى تاريخها شديد التعقيد.
■ البنا يأتى بإسماعيل صدقى رئيساً للحكومة لضرب اليسار والسادات يفشل فى تدبير لقاء بينه وبين الملك ■ انحاز البنا من اللحظة الأولى للملك ووثق علاقاته مع النخبة المحيطة به فى القصر ليحصل على دعم مالى وسياسى ■ لقد درب الإخوان على التقية.. ليظهروا فى ضعفهم ما لا يبطنون ويتحالفوا مع خصومهم حتى يتمكنوا.. كما فعلوا بعد ثورة يناير
الأسبوع القادم:
■ زوج ابنة البنا يلتقى بالرئيس الأمريكى فى البيت الأبيض ■ سعيد رمضان يؤسس حزب التحرير الإسلامى وينقل نشاط الجماعة إلى ألمانيا ■ المخابرات المركزية والسويسرية والبريطانية تستخدم الجماعة فى الحرب الباردة ضد الشيوعية