عادل حمودة يكتب: عملاء تحت عمائم

مقالات الرأي



 1- الأفغانى الغامض فى مصر

■ بدأ أول طابور الإرهاب الذى وقف فيه محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا لنصل إلى أسامة بن لادن والبغدادى

■ جاء إلى السويس على سفينة عسكرية بريطانية وعرض على مخابراتها تأسيس أول حلف إسلامى لضمان سيطرتها على المنطقة 

■ دعا الناس إلى الأصولية علنا بينما كان عضوا ملحدا فى جماعة ماسونية تعبد الأهرامات الفرعونية 

■ عينه رياض باشا فى وظيفة بألف قرش دون عمل محدد بعد إقناعه بأن الدين أداة فى يد الحكم

فى البدء كانت الكلمة.. منحها الله نغما سحريا قبل أن يهدى الإنسان إلى الموسيقى.. وغلفها ببراءة ساكنة قبل أن تفرض الخضرة نفسها على الأرض.. ونفخ فى روحها هداية قبل أن يبعث أنبياءه برسالة الإيمان والتوحيد.

لكن.. كثيرًا من الكلمات اغتصبت.. انتهكت عذريتها.. أصبحت جارية فى بلاط حكام.. ومقالات كتاب.. ومقابلات عشاق.. ومؤامرات جواسيس.. ومنابر رجال دين.

ولو كان العار يصيب كل من جمع بين الكلمة والبورصة فى مقام واحد، فإن اللعنة تطارد كل من استخدم كلمات الله المقدسة فى تنفيذ مؤامرات أجهزة مخابرات معادية ضد وطنه وأهله.

إن بعض رجال الدين أشد خطرا على بلادهم أحيانا من الخونة والجواسيس ولو ادعوا الطهارة.. وصلوا الفروض فى أوقاتها.. فالطريق إلى جهنم مفروش بالنيات الطيبة.

هل نبحث عن دليل دامغ وساطع وظاهر وقاهر ومسيطر ومؤلم أكثر من الحروب المذهبية والتفجيرات الإرهابية والصراعات العرقية التى تلاحقنا فى غالبية الدول الإسلامية ؟

إن العدو ينام معنا.. يأكل طعامنا.. ويتزوج بناتنا.. ويحمل جنسيتنا.. ويصوم مثلنا.. لكنه.. لا يتردد فى ذبحنا.. وأسرنا.. ونفينا.. وتهجيرنا.. وتشريدنا.. وتدمير أوطاننا.. وحرق خرائطنا.. وتفتيت وحدتنا.. متصورا أنه المؤمن الوحيد.. وما عداه كفار يستحقون الرجم.

عدو يدعى أنه صديق الله.. وحبيب الله.. والمتحدث الرسمى باسم الله.. والحاكم بأمر الله.. دون أن يصدق أنه آخر من يعرف الله.. آخر من يسامحه الله.. وإنه سيصبح أول من يعذبه الله.

لكن.. ما يحدث تحت الأرض.. فى غرف سرية سميكة الجدران.. تحكمها أجهزة خفية محترفة ومتآمرة أعمق بكثير مما يظهر على السطح.

إن الصورة التى نراها على شبكات الفضائيات الإخبارية وفى صدر الصحف اليومية ليست سوى لقطة نهائية مؤلمة فى مسلسل معقد لا نرى كواليسه.. ولا نكتشف أبعاده.. ولا نعرف عملاءه.. وربما تورطنا فيه بسلامة نية.. فالمخططات خبيثة.. معقدة.. متشابكة.. تجعلنا ننفذها بإيمان وحماس.. متصورين أنها ستنتهى بنا إلى الجنة رغم أن كل علامات الطريق تشير إلى اننا متجهون إلى جهنم.

لقد تداولنا جملة الشيطان يعظ المقتبسة من كتاب للدكتور مصطفى محمود حتى أصبحت جزءًا من لغتنا اليومية وأمثالنا الشعبية.. لكن.. علينا الآن أن نتحدث عن لعبة الشيطان.. والجملة عنوان لكتاب شديد الخطورة والأهمية لباحث أمريكى شهير هو روبرت دريفوس.. رئيس تحرير مجلة ذى نيشن.. والمحرر المسئول عن تغطية شئون الأمن القومى فى مجلة ذى رولينى ستون.. بجانب نشر مقالاته فى صحف أمريكية متنوعة تغطى بلاده كلها.

الكتاب بحث شديد العمق ــ مدعم بالوثائق ــ فى كيفية استخدام أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية ــ وغيرها ــ للقوى الإسلامية فى تنفيذ ما تهدف إليه من مخططات وما تنفذه من مؤامرات.

لقد سبق أن نشرت ــ قبل نحو عشرين سنة ــ كتاب صلاة الجواسيس مبحرا فى نفس السفينة.. باحثا عن نفس الجزيرة.. مستقرا عند نفس النتيجة.. إن كثيرا من مشايخنا كانوا أداة فى يد أعدائنا.. ودللت على ذلك بوثائق أخفيت.. وحوادث دبرت.. وأوطان دمرت.. وشخصيات حاكمة قتلت.

وجاء كتاب دريفوس ــ الذى ترجمه أحمد مصطفى حسونة وراجعه عبد المنعم خربوش ونشرته دار الثقافة الجديدة ــ ليكمل ما فى الصورة من تفاصيل موحية.. مضيفا إليها ملامح وظلالاً حديثة.. تجعل من تجاهلها جريمة.. تجعل منا شيطانًا أخرس.. يفهم ولا ينطق.. يشارك بالسكوت متصورا أنه يتجنب التورط بالتعبير عما يعرف.

فتح الكتاب شهيتى نحو التهام مزيد من المراجع العربية والأجنبية التى سيأتى ذكرها فى محلها.. لكنى.. أريد الاعتراف بأن حماسى للكتاب سببه صدمة حادة فجرتها فصوله الأولى حيث أثبت أن جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده ــ آخر مشايخنا المجتهدين فى تاريخنا الحديث ممن نبجلهم ونوقرهم ونضرب بهم المثل فى التنوير ــ كانا عميلين لأجهزة مخابرات أجنبية استخدمت علمها الدينى فى تحقيق أهدافها وضرب حركات الاستقلال الوطنية فى مقتل.. ليؤسسا ما يعرف فى الدوائر الأكاديمية بـالإسلام الشمولى الإمبريالى.

قبل أكثر من 130 عامًا من الدعم الأمريكى للجهاد فى أفغانستان ومبادرة إدارة ريجان السرية تجاه آية الله الخمينى فى إيران التقى فى لندن ناشط فارسى أفغانى مع مسئولين فى المخابرات والخارجية البريطانية ليجروا معا حوارا فكريا.

سألهم الرجل فى هدوء: هل بلادكم مهتمة بتنظيم تحالف إسلامى شمولى يضم تركيا ومصر وفارس وأفغانستان ضد روسيا القيصرية؟

كان عصر الصراع الروسى البريطانى قد بدأ من أجل السيطرة على آسيا الوسطى بعد أن تفسخت الإمبراطورية العثمانية (التركية) التى كانت تضم الشام والجزيرة العربية ودول الخليج ومصر وإن تأخر تقسيم تركتها إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى.

لقد برعت السياسة البريطانية فى اللعب على الانتماءات القبلية والعرقية والدينية وتأليب الأقليات ضد بعضها البعض ولم يتورع خبراؤها عن استخدام فكرة الإحياء الإسلامى طالما تخدم أهدافهم وصولا إلى الإمبراطورية العظمى التى لا تغرب عنها الشمس.

كان الرجل الذى اقترح عام 1885 فكرة تولى بريطانيا قيادة حلف إسلامى هو جمال الدين الأفغانى.. وفى الفترة ما بين عامى 1870 و1890 ظفر الشيخ الجليل بدعم بريطانيا على الأقل طبقا لما ورد فى تقرير سرى لمخابرات بريطانيا فى الهند حين عرض بنفسه رسميا أن يتوجه إلى مصر عميلا للمخابرات البريطانية.

إن الأفغانى الجد الأكبر لمؤسس داعش أبو بكر البغدادى.. وبدأ النسب بتلميذه ومساند أفكاره الإمام محمد عبده.. ليتبعهما الشيخ محمد رشيد رضا ناشر مجلة المنار التى ساهمت فى تكوين حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين التى وصلت إلى باكستان وتخفت تحت عباءة الجماعة الإسلامية التى كونها أبو الأعلى المودودى.. الشخصية المؤثرة فى فقه التكفير والتفجير الذى روج له سيد قطب منجبا عشرات التنظيمات المسلحة الشرسة من القاعدة إلى الدولة الإسلامية فى سوريا والعراق.

كل المعلومات المتاحة عن الأفغانى غامضة.. غير مؤكدة.. بما يتوافق مع شخصيته المثيرة للحيرة.. أغلب الظن أنه ولد عام 1839.. ولكن.. هناك من يؤكد أنه ولد فى مدينة أسعد أباد الأفغانية.. وهناك من يثبت أنه ولد فى مدينة أسد أباد الإيرانية.. وينتمى إلى عائلة شيعية.. فوالده السيد صفتر من سادة الحسينية.. يرتقى نسبه إلى عمر بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب.

أنكر جمال الدين نسبه إلى البيت النبوى الشريف واتخذ لقب الأفغانى ليحظى بالقبول فى الدول السنية ليبدأ مبكرا لعبة اجتزاء الحقيقة.. فطوال حياته كان مرائيا.. وبالرغم من التقدير الذى ناله فى كامل العالم الإسلامى فإنه كان مفكرا ملحدا وماسونيا.. ينظر إلى الدين بوصفه أداة.

فى الظاهر كان تقيا يدعو إلى العودة إلى إعادة المجتمعات الإسلامية إلى ما كانت عليه فى السنوات الأولى للدعوة المحمدية، فإنه فى جلساته مع ضباط التشغيل فى المخابرات البريطانية كان يقول: إننا لا نجتز رأس العقيدة إلا بسيف العقيدة.

ويفسر المستشرق البريطانى إيلى قدورى (كاتب سيرته) إنه كان يهدف إلى تحقيق العقيدة ولو بالكذب فى الدعوة إليها.

والخطر.. أنه رغم دعوته إلى استرداد الأصولية الإسلامية فإنه كان فى السر ملحدا.. ينتقد كل العقائد بلا استثناء.

وكتب يقول: إن الأديان أيا كانت مسمياتها تشبه كل منها الأخرى وليس ثمة إمكانية للتفاهم أو المصالحة بينها وبين الفلسفة، فالدين يفرض على الإنسان الإيمان به بينما الفلسفة تحرره.

ويستطرد: لكن العقل لا يريح الجماهير كما أن تعاليمه لا تتدركها سوى القلة من النفوس المختارة.

وتكشف هذه العبارة المكون الأساسى فى شخصية الأفغانى المبهمة.. التفرقة بين خطابه للعامة وخطابه للصفوة.. كما أنه يعادى الإمبريالية (الاستعمارية) علنا ولكنه يتآمر معها سرا.

وداعية بهذه الصفات لابد أن يكون رغم شهرته العريضة.. مجهولا.. لا نعرف عنه سوى القليل.. المؤكد.

لقد ادعى أنه بدأ عمله السياسى فى ستينيات القرن التاسع عشر على منابر أفغانستان.. بل وساند الأمير محمد أعظم المدعوم من روسيا فى حربه الأهلية ضد شير على المدعوم من إنجلتر.. فقد كان الصراع على أفغانستان بين القوى الاستعمارية الشرقية والغربية صراعا عتيقا.. تجدد فيما بعد بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة.. ولم يغب استغلال الإسلام عن مشاهد الصراع فى كل العصور.. على أرض تلك البلاد الجبلية الفقيرة الوعرة التى أصبحت فيما بعد رحما عريضا خرجت منه التنظيمات الدينية المتطرفة والمسلحة وعلى رأسها القاعدة.

وعندما هزم الفريق الذى أيده الأفغانى أجبر على ترك البلاد متوجها للهند التى سبق أن درس فيها العلوم الحديثة واللغة الإنجليزية.. ورحبت به سلطات الاحتلال البريطانى واستضافته على متن سفينة حربية وتحملت نفقات رحلته إلى السويس.. وبعد زيارة للقاهرة توجه إلى تركيا، حيث تسببت تفسيراته الدينية فى غضب عارم فى أوساط المؤسسات الإسلامية مما دفع الحكومة هناك إلى طرده غير مأسوف عليه.

فى القاهر التى عاد إليها عام 1871 تبناه رياض باشا رئيس الحكومة ليستخدمه فى مواجهة الحركات الوطنية.. وسمح له بالإقامة فى الأزهر الشريف.. ومنحه راتبا شهريا مقداره ألف قرش.. دون عمل.. مما يثير مئات من علامات الاستفهام.

بعد ثمانى سنوات من وجوده فى القاهرة تسببت اضطرابات السياسة المصرية فى طرده من البلاد فعاد إلى دلهى ولكنه غادرها إلى لندن ومنها إلى باريس حيث مكث ثلاث سنوات وبعدها إلى روسيا حيث عاش أربع سنوات ليصل إلى ميونخ ليستقر فى طهران حيث عينه الشاه وزيرا للحرب فرئيسا للوزراء.. لكنهما سرعان ما افترقا بعد أن قام الأفغانى بالتحريض ضد الملكية الفارسية ليسبق آية الله الخمينى بعقود طويلة.. وبعد طرده إلى إستنبول نجح أحد اتباعه فى اغتيال الشاه منهيا خمسين سنة من حكمه.

كانت نشاطات الأفغانى السرية هى التى تلقى به بعيدا عن الاستقرار.. فأثناء وجوده فى مصر دأب على ارتياد المحافل الماسونية (الأنجلو مصرية) و(الفرنسية المصرية) ولكنه كان يلتزم التكتم بما فى ذلك انتماءاته الصوفية.

وعند إخراجه من مصر ذكر تقرير مخابراتى للقنصل البريطانى فى القاهرة: إن الأفغانى طرد حديثا من جماعة الماسونيين الأحرار فى مصر والمسماه بالمحفل الأسكتلندى العام التى كان ينتسب إليها بسبب عدم إيمانه بالكائن الأعظم.

وكانت تلك الجماعة تؤمن بوجود أسرار للأهرامات يستقر فيها الإله أو المهندس الأعظم.

فى سبعينيات القرن التاسع عشر التقى الأفغانى بأهم تلاميذه.. محمد عبده.

ولد محمد عبده فى القاهرة عام 1849 وسط عائلة تضم علماء مخلصين للإسلام.. وحفظ القرآن فى سن العاشرة.. وكان عمره 22 عاما عندما التقى بالأفغانى وفتن وارتبط وتأثر به.. كان محمد عبده يمر بمرحلة حرجة فى حياته الروحية ونجحت شخصية الأفغانى القوية فى جذبه إليه.. وشكلا معا ما يوصف بالعقيدة الخفية التى لم تقتصر على مصر فقط وإنما امتدت إلى المنطقة بأسرها.

وكانت تلك التنظيمات حضانة لما سنعانى منه فيما بعد.

الأسبوع القادم:

■ محمد عبده يرفض ثورة عرابى ويطالبه بالتفاوض مع الإنجليز ■ الأفغانى يدعو إلى محاربة النار بالنار والإسلام بالإسلام

■ اللورد كرومر يعيد محمد عبده إلى مصر ويعينه فى وظيفة حكومية ■ ممثل الاحتلال فى مصر يختار محمد عبد مفتيا ■ والإمام يرد الدين بمواجهة القوى الوطنية بأحزاب دينية