منال لاشين تكتب: سنة سودة على «الصحافة»

مقالات الرأي



أزمة القيادات من الصلاحيات إلى الأرباح

الدولة تنفق 1٫1 مليار جنيه أرباحاً للمؤسسات الصحفية الخاسرة فى عامين

فى البدء كان «الأهرام»، ولذلك يصلح عدد «الأهرام» بمناسبة 140 عاما على صدورها كمدخل مهم لمناقشة أوضاع الصحافة أو بالأحرى مستقبلها. «الأهرام» أعرق المؤسسات الصحفية. ويوم الاحتفال صدرت «الأهرام» على غير عادتها متأخرة، فقد تأخر الطبع لساعات. خلال هذه الساعات ظهرت أكثر من رواية. دون أن يختفى مناخ التوتر والغضب فى كل من الروايتين. الرواية الأولى الأكثر سخونة أن السبب خلاف نشب بين رئيس مجلس إدارة «الأهرام» الأستاذ أحمد النجار ورئيس التحرير الأستاذ محمد عبدالهادى علام. فرئيس التحرير استغل صلاحياته ومنع نشر مقال النجار، فرد الأخير باستخدام صلاحياته بمنع طبع «الأهرام». وتستكمل الرواية.. المطابع دارت وخرج العدد الاحتفالى للنور بعد تدخلات عليا من داخل وخارج الوسط الصحفى. وبالطبع فإن هذا المشهد فى هذه الرواية كان ذروة الخلاف بين الرئيسين. أما الرواية الأخرى فلا تنفى الخلاف بين الاثنين. لكنها تضعه فى مستوى أقل من الرواية الأولى. ففى غياب رئيس التحرير أصر رئيس مجلس الإدارة على نشر مقاله فى الصفحة الأولى. وقد تعذر تلبية طلب النجار، كما أن النجار نفسه تأخر فى كتابة مقاله وهو الأمر الذى أدى إلى تأخر طبع «الأهرام». وتعددت الروايات والنتيجة واحدة. تأخر طبع «الأهرام» أدى إلى لخسائر مادية، فقد وصل العدد إلى الصعيد متأخرا، وأدى تأخر الطبع لخسائر أخرى فى الطبعات الدولية قدرت بـ200 ألف دولار. وهذا المبلغ يخص إرسال صفحات «الأهرام» للطباعة فى العواصم العربية بالقمر الصناعى. هذه الخسائر لها بعد سلبى آخر، فرئيس مجلس «الأهرام» خبير اقتصادى. رجل يدرك أن الوقت يترجم فى علم الاقتصاد إلى فلوس. والالتزام بالمواعيد هو إحدى علامات نجاح الإدارة الاقتصادية لأى مؤسسة. فى هذه النقطة ثمة سؤال أعمق وأشمل يطرح نفسه هل نجحت خبرة النجار الاقتصادية فى إخراج «الأهرام» من أزمته الاقتصادية؟.. سؤال كان يتردد إجابته من خلال استعادة الصحفيين للروايتين وراء تأخر طبع «الأهرام» فى عددها الاحتفالى.

الروايتان شهدتا رواجا فى الـ36 ساعة الأولى فور تأخر طبع «الأهرام»، وحكايات الخلاف بين رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة تتداخل مع الروايتين، وتدخلات رئيس المجلس الأعلى للصحافة الأستاذ جلال عارف كممثل للمالك لرأب الصدع فى المؤسسة العريقة. وجلسات الأستاذ محمد حسنين هيكل بوصفه الأب الروحى للأهرام.

ولكن لأن آفة حارتنا النسيان مثلما قال الأديب العبقرى نجيب محفوظ. فقد تراجعت قصة الروايتين فى شارع الصحافة مقابل حدث آخر. فقد أعلن عن توفير 120 مليون جنيه كأرباح لأبناء «الأهرام» وسيتم توزيعها. لم يهتم الكثير بخسائر «الأهرام»، فالجميع يعلم أن المبلغ جاء دعما من الحكومة، ولكن البعض تساءل هل توزيع الأرباح يعنى استمرار النجار وعلام؟ السؤال طرح بغضب أحيانا، ودهشة بريئة أحيان أخرى. فكل من النجار وعبدالهادى أنهيا مدتهما القانونية.

دعم مهنة المخاطر

مرة أخرى تصلح «الأهرام» كمدخل ولكنها ليست النموذج الوحيد، فليست «الأهرام» وحدها من انهمرت على سمائها أرباحا رغم الخسائر على أرض الواقع.

فالأرباح وصلت للأخبار والجمهورية، وإن اختلفت المبالغ. حصلت الأخبار على 45 مليون جنيه، والجمهورية على 35 مليون جنيه. وذلك من دعم حكومى عبر المجلس الأعلى للصحافة بلغ 300 مليون جنيه. باقى المبلغ ذهب لصحف الجنوب وهو تعبير مهذب لوصف المؤسسات القومية الفقيرة والصغيرة. الدعم السنوى الحكومى تقلص هذا العام بعدما وصل إلى 800 مليون جنيه فى العام الماضى. وهو دعم مخصص للمؤسسات الصحفية القومية فقط. فقطار الدعم لا يصل إلى المؤسسات الصحفية الخاصة أو الحزبية.

ويبدو أن الحكومة لاتزال تتعامل مع الصحافة بمنطق ما قبل 25 يناير. وترى أن من حقها وربما واجبها أن تستخدم أموال دافعى الضرائب لدعم نوع معين من الملكية فى الصحف. وبعد ثورتين لا يزال التفكير فى دعم الصحافة كمهنة وصناعة بعيد عن التفكير الحكومى. تتعامل الحكومة فى قضية الدعم بمنطق «البيت بيتنا والفلوس فلوسنا وصحفنا أولى»، لا تزال الحكومة تتعامل فى هذا الملف وكأننا نعيش وحدنا فى هذا الكوكب وكأن العالم خلا من الحلول والتجارب.

بعض الدول تدعم الأحزاب والصحف. وذلك من منطلق حماية التنوع لأن كل صحيفة هى صوت مختلف. ولكن هذا الدعم يتم من خلال صندوق مستقل له قواعده الشفافة والواضحة.

هذا الصندوق يدعم الصناعة أحيانا بمعنى توفير الورق أو الأحبار أو الماكينات. أو تقديم دعم لها أو تقديم دعم فنى وتكنولوجى. وهناك تجارب أخرى يتم فيها الدعم للصحف مباشرة. ولكن ذلك من خلال معايير واضحة تتعلق بالتوزيع وحجم الإعلانات.

وهذه الأفكار وغيرها يجب أن ترافقنا ونحن ندخل عام 2016. فالمشهد الصحفى يحتاج إلى كثير من الجهد للخروج من مخاطر المهنة التى تحيط بنا. نحتاج بقوة وسرعة إلى تشريع حديث ومنصف للمهنة وحريتها واستقلالها. لكنه رادع للتجاوزات غير المسبوقة أو المقبولة. فهذه التجاوزات تهدد سمعة مهنة الصحافة محليا ودوليا، وبواقعية أكثر هذه التجاوزات نالت من سمعة المهنة فى الداخل والخارج. المشهد الصحفى المؤلم والمقلق يحتاج إلى إرادة لدعم تطوير المهنة بكل أطيافها بعيدا عن شكل الملكية. تطوير حقيقى للتدريب ودعم الصناعة بعيدا عن الانتقائية. أما استمرار نزيف الخسائر ودفع فواتير الأرباح الوهمية فلن يؤدى سوى لمزيد من انهيار المهنة.

أزمه قيادة

فى قلب أزمة «الأهرام» وأخواتها القوميين أزمة استمرار ضبابية وضع القيادات الصحفية والإدارية فى المؤسسات القومية. رؤساء انتهت مدتهم القانونية لا يعرفون ماذا يحمل لهم الغد. هل سيمد لهم أم سيرحلون؟ ماذا سيكون قرار المجلس الأعلى للصحافة المنتهية مدته وصلاحياته هو الآخر. فى سماء الانتظار تتكاثر سحب القلق والتوتر. وتخلف هذه السحب مناخا للمؤامرات والتناحر. هل يمكن أن نتوقع الاستقرار من أصحاب مواقع ومناصب وصلاحيات غير مستقرة؟

هذا مناخ لا يصح أن يستمر. لا أقصد وضع الانتظار لقيادات المؤسسات الصحفية القومية فحسب، وإنما أوضاع أو بالأحرى معايير الاختيار ومعايير تقييم النجاح والاستمرار. وهى مهمة عاجلة وكاشفة للمجلس الوطنى للصحافة المنتظر إقرار قانونه فى البرلمان. وأخطر من إقرار القانون اختيار رئيس وأعضاء المجلس، مجلس لا يقع فى تعارض مصالح يشل حركته، فلايجوز أن يضم المجلس رؤساء مجالس إدارات أو رؤساء تحرير. فالحكم لا يجب أن يكون لاعبا فى المباراة. لأن المجلس سيراقب الأداء وسيختار القيادات. وإذا كنا جادين فى إصلاح المهنة يجب ألا نخضع لرغبات أو أحلام أو طموحات البعض من أهل المهنة.

نريد مجلسا قويا وخبيرا وحكيما. مجلسا يساعد المؤسسات القومية للخروج من أزمة تهدد وجودها المهنى وتزيد من سواد المشهد الصحفى. البداية من إرادة إصلاح حقيقى ومستمر ومتواصل بدلا من تغطية العورة بدعم أرباح لمؤسسات خاسرة. الأولى أن تكون مهمة المجلس أن يساعد هذه المؤسسات على الربح والنجاح. وهى مهمة ليست مستحيلة وإن كانت صعبة.

ولكن هذه المهمة الصعبة يجب أن تكون الشغل الشاغل للمجلس أو على الأقل على رأس أولوياته. وإلا سينتهى عام 2016 بأزمة ثانية أو عاشرة. أزمة تتجاوز تأخر الطبع إلى مزيد من تأخر الأداء المهنى. وستتضخم الروايات فبدلا من الروايتين سيكون هناك عشر أو مائة. وكل رواية ستحكى خلافا ما يعكس فوضى أو ديكتاتورية. بدون قانون مهنى واقتصادى واضح ستنمو الأعشاب الضارة السامة فى الحدائق الخلفية ودهاليز المؤسسات. والأخطر أن سمها سيتسرب للحروف والعناوين. وعندئذ سيكون الكلام عن التطوير والمنافسة نكتة سخفية تنافس سخيفة المشهد الصحفى الذى نعيشه أو الكابوس الذى يمسك بتلابيب مهنة البحث عن الحقيقة.