د. أحمد يونس يكتب: الممرضة الرقيقة المفعمة بالشجن كأمســية ديسمبرية

مقالات الرأي




الممثلة الأمريكية: لارا فيلين بويل، فازت بلا مــنازع بلقب: أسوأ نجــمة إغــراء ســوقية فى هوليوود. لو كانت عـندنا مسـابقة كهذه ، لأصبح الاختيار بين كـــل تلك المرشحات شـبه مستحيل. اتحاد الكرة، كنت أظنه كأى واحــد من فصول السنة الأربعة، يذهب عندما يتغير المـناخ. الآن، أعتقد أنه كالكابوس، لا ينتهى إلا مع اليقظة، فمتى نفيق؟ ياسر برهامى، إلغاء الترخيص الذى يحرض بموجبه على الإرهاب من على المنبر، قـرار حكيم، لا يعيبه سوى أنه صدر متأخراً عن موعده بكثير. ذات ليلة باردة ـ إلى درجة التجمدـ من ديسمبر فى منتصف التسعينيات، وعلى الطريق من مدريد إلى برشلونة، تعرضـت لحــادث مروع، كاد يودى بحياتى لولا ســتر ربنــا. السماء تمطر كميات ضخمة من الثلج على شكل رذاذ، سرعان ما يغطى الإسفلت بالكامل متخذا شكل الصخور الزجاجية ذات الأسنان المدببة كالخناجر. فجأة، هبطت من السمــاء طائرة هيلكوبتر تراقب المرور على مدى الـ24 ساعة، لتحط بنا على سطح المستشفى بالمدينة الأقرب، وهى ثاراجوثا. السيارة التى كنت أستقلها، احترقت تماماً بعد ثانيتين من مغادرتى لها. كثافة الضباب، أو لعلها غفلة السائق، هى التى جعلتنا نصطدم ـ على سرعة 140 كيلومتراً فى الساعةـ بسور حديدى مرتفع لجزيرة تفصل الأوتوستراد إلى فرعين. الطبيب قال لى بعد الاطلاع على الأشعة: كسر فى البرينيه بالرجــلين معاً! أربعة أشهر فى الجبس. لن تستطيع المشى بدون عكازين، أو كرسى متحرك. ولم أفهم سوى أن هذا "البرينيه" هو غضروف عند مـلتقـى الساق بالقدم. لست أدرى لماذا أجبتـه على الفور: حسناً! أخبار لا بأس بها. كنت أتوقع أن تخبرنى بأننى مت. استفسرت منه عن اسم الممرضة التى أغرقت فى الضحك، فتطوعت هى بالرد: كلارا! من يومهــا، والألم يعاودنى فى ديسمبر من كـــل سنة فى نفس مكان الكسر. ظننت فى البداية أنها مجرد مصادفة، وأننى أحمل الأمور أكثر مما تستحق. لولا أننى تذكـرت ما درسـته عن نظرية لعالم يدعى كورساكوف عن ذاكرة الأعضاء. سألتنى كلارا، وهى تغلق على باب الغرفة لأنام: هل هناك ما أصنعه من أجلك؟ قلت: أريد أن أنتهز فرصة تواجدى فى ثاراجوثا لأزور كاتدرائية البيلار. اعتذرت لصديقها عن موعدهما الأسبوعى. ولم تخف عنه السبب. استغلت يوم عطلتها بالفعل لتدفع بالكرسى المتحرك الذى أجلس عليه بين أرجاء الكاتدرائية، وتصف لى بمنتهى الدقة اللوحات المرسومة على السقف والجدران. آلام المسيح ومعجزاته، أو حاملاً تاج الشوك أو على الصليب، أو ملائكة بيضاء كالثلج، لها ملامح الأطفال بأجنحة شفافة، تحوم حول السيدة العذراء وصغيرها الوليد. اللوحات كانت كلها بريشة جويا. ثم ذهبنا لنستمع إلى رقصة النار، لمانويل دى فايا من عزف أوركسترا البلدية فى متنزه أراجون. كان المساء بديعاً ورقيقاً وجميلاً ومفعماً بالشجن، بالضبط مثل كلارا. وبينما نحن فى طريق العودة إلى المستشفى، ظلت تتردد داخلى أغنية شهيرة لمطرب كوبى اسمه باتشين: قل لريشتك أيها الرسام أن ترسم أيضاً ملائكة سوداء كالأبنوس، لها ملامح الأطفال الجياع، بأجنحة ترتعش من البرد. أيها الرسام قل لريشتك: كل الأطفال عند الرب سواء. وفى هذا الديسمبر، تعاودنى كلارا الرقيقة الحلوة الرائعة المفعمة بالشجن. كما يعاودنى الألم كالمعتاد. لكن، ليس فى البرينيه وحده. ليس فى البرينيه وحده.