عبد الحفيظ سعد يكتب: رحل البابا.. وعاشت مواقفه

مقالات الرأي



بالنسبة لجيلى الذى ولد وعاش بعد كامب ديفيد واتفاق السلام مع إسرائيل، ظل موقف الكنيسة الأرثوذكسية القبطية بقيادة الراحل البابا شنودة، المنارة التى اتخذها كل من يرفض هذا الكيان الغاصب، لأرض عربية، ليعيش على جثث أصحابها..

هذا الجيل الذى لم يعاصر أو يعيش الحرب الساخنة مع إسرائيل، خرج للدنيا مع سلام فاتر.. ومواقف متضاربة.. تجاه من قتل أبوه أو عمه، وأذل جده، وكسر حلمه، ليجد نفسه مطلوبا منه، أن يتعامل مع أمر واقع بأن العدو، صار صديقا..

ومن هنا كان دليل هذا الجيل، موقف الكنيسة الصامد مع الأصوات التى ترفض الاعتراف أو التطبيع مع أمر واقع، لأكبر جريمة فى تاريخ البشرية، شاركت فيها قوى إقليمية، لتفرضه بقوة السلاح وسط تخاذل بشرى، ليسمح لمحتل أن يعيش على جثث إنسان، بعد أن سلبه أرضه ووطنه.

لذا، لم يكن موقف الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، مجرد موقف دينى، بل كان مبدأ أخلاقياً، كنا نفتخر به، مسلمين قبل المسيحيين، بأن زعامة دينية تتمثل فى بابا الإسكندرية، ترفض أداء طقس دينى "الحج" على حساب إعطاء شرعية لعدو ظالم.. وعندما أصدر المجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية قراره فى مارس 1980، برفض زيارة أى مسيحى للقدس، لعدم إعطاء شرعية لكيان محتل، لم يكن القرار للمصريين مجرد موقف دينى لمن شاركوهم الأرض والدم، بل كان معبراً عن ضمير وطنى مصرى.

قرار الكنيسة كان فخرا، لكل مصرى، وهو يعطى درساً بأن الكنيسة القبطية، لم تكن كيانا معبرا فقط عن معتنقى ديانتها، بل تعبيرا عن وجدان شعبى، حملته الكنيسة، الملقبة باسم البلد القديم "القبطية".. أتذكر الآن ونحن نفتخر بموقف الكنيسة التاريخى من الاحتلال الإسرائيلى، عندما كنا نواجه المحرضين ضدها من أصحاب الفكر المتطرف، بمقولة البابا شنودة "لن ندخل القدس إلا مع إخوتنا المسلمين"، ظلت المقولة تخرس أى لسان متطرف، يريد أن يشكك أو يزايد، لأنها كانت أكبر دليل، أن الصراع مع العدو ليس دينيا..

ومن هنا جاءت الصدمة من الزيارة للقدس التى قام بها البابا تواضروس الثانى بابا الكنيسة الجديد يوم الخميس الماضى، بحجة أداء واجب العزاء فى الأنبا إبراهام مطران الكنيسة الأرثوذكسية فى القدس، باعتبار أن سفره كسر قرار المجمع المقدس، الذى ظل صامدا على ما يزيد على 35 عاماً، بعد أن تشدد قداسة البابا الراحل "شنودة" فى تطبيقه، بل فرض على كل قبطى، كسر القرار وزار القدس، بأن يقدم اعتذارا فى أكبر الجرائد المصرية، كشرط لعودته للكنيسة.

ربما كان الدافع الإنسانى للبابا تواضروس، وراء قراره بالسفر، ليودع معلمه وأستاذه فى الرهبنة، الأنبا إبراهام، لكن عليه الآن، أن يواجه من يسعون لكسر قرار الكنيسة التاريخى، بعدم التطبيع مع إسرائيل، لأنها غاصبة لأرض ومقدسات، ويحاول هؤلاء الآن أن يستغلوا سفر البابا ليفتحوا الباب حتى نهايته، أمام سفريات للمسيحيين للأراضى المقدسة، بل تسعى إسرائيل أن تستخدم زياراته باعتبارها اعترافاً بإسرائيل وهو ما هللت له صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، الاثنين الماضى، باعتبار أن الزيارة تعد اعترافاً بسيادتها على القدس، وأن المسيحيين الأرثوذكس ستزيد رحلاتهم للمدينة، بحجة أن البابا كسر الالتزام بعدم دخول الأراضى المقدسة إلا وهى محررة.

أحمل رسالتى للبابا تواضروس وألا أنسى موقفه التاريخى عقب 30 يونيو، بعد أن وقف مع ممثلى الشعب، بإزاحة تنظيم أراد أن يتغول علينا، وصمد عندما حاول هؤلاء أن يرهبوا الأقباط باستهداف مقدساتهم وأرواحهم بعد إزاحة مرسيهم ومرشدهم.. وتحمل الخطر مع كل المصريين، ليقف الآن أمام موقف تاريخى، وسط أحداث جسيمة، يستفحل فيها التعصب الذى وقوده التطرف الذى خلقته إسرائيل.

أريد منه أن يذكرنى ويتعلم منه ابنى والأجيال القادمة، كما تعلمت أجيال من البابا شنودة، أن إسرائيل هى العدو، التى استمرارها فى كسرنا، هو ما يغذى الإرهاب، ويزيد شوكة التعصب.. ربما لن تنكسر إسرائيل قريبا، لكن على الأقل نريد أجيالا قادمة تتذكر، وتعتز من موقف واضح دام 35 عاما لكنيستنا القبطية، التى عبرت به عن وجدان مصرى، طمسته دهاليز السياسية، ومراكز القوى العالمية.. ذكرنا من طرد الرضيع من أرضه.. ومن سلب الحقوق من أصحابها.. ومن يدبر المكائد ضدنا.. للبابا تواضروس ذكرنا من هو العدو.