عادل حمودة يكتب: وزير الخارجية يتجاهل أخطاء سفيرنا فى لندن فى ترتيب زيارة الرئيس إلى بريطانيا
ظهرت من جديد أعراض الخرس الإعلامى على وزير الخارجية سامح شكرى.. فتجاهل ما نشره عن الأخطاء الصعبة التى وقع فيها السفير فى لندن ناصر كامل خلال زيارة الرئيس إلى بريطانيا.
كأن الوزير لم يقرأ.. أو كأن مكتبه لم يضع أمامه ما كتبت.. وكل ما فعل أنه تعامل معى بجمود ــ أتجاوز عن وصفه ــ عندما التقيته عابرا فى الإتحادية بعد توقيع اتفاقيات الضبعة النووية.. لم يملك الوزير أكثر من ذلك التصرف المثير للدهشة وكأن الخلاف بيننا خلاف شخصى.. وليس خلافا على مصلحة دولة.. ودعما لرئيسها.
كنت قد انتقدت توقيت الزيارة فى يوم تعودت بريطانيا على خروج الطلبة فيه منذ عشرات السنين احتجاجا على تكاليف الدراسة.. ما جعل الأنظار تتجه بعيدا عن الزيارة.
ولم يستوعب السفير ــ بحكم تسرعه فى فهم الأمور ــ خبث ودهاء السياسة البريطانية التى تبطن فى كثير من الأحيان أكثر مما تظهر.. ولم يدرك أن لندن تعتبر مصنع السياسة الأمريكية والمعبرة عنها.. ولو كان السفير متمكنا من خبرته.. مطلعا على ما ينشر.. متصلا بشخصيات مؤثرة فى السلطة هناك لما أعد برنامج الزيارة بحيث تكون كل مقابلات الرئيس ــ ما عادا زيارة مقر الحكومة ــ داخل الفندق بما يخالف الطبيعة البريطانية التى تفضل اللقاءات فى أماكنها الطبيعة.. البرلمانيون فى البرلمان.. رجال الأعمال فى نواديهم.. المفكرون فى مراكزهم البحثية.. مثلا.
بل.. كان هناك اقتراح ــ كما سمعت ــ أن يزور الرئيس كلية القادة هناك.. لمسة منه إلى مكان درس فيه نحو العام.
وما يثير الدهشة أن الزيارة اتفق عليها فى شهر يونيو.. قبل أكثر من أربعة شهور من بدئها.. وكان من المناسب أن يلقى الرئيس خطابا فى البرلمان دون مناقشة لاحقة.. وفى البرلمان يوجد كل التيارات السياسة.. بخلاف الحكومة التى تشكل حزبا واحدا واتجاها واحدا.
وكان متفق على أن يلقى الرئيس خطابا فى البرلمان وحددت القاعة (وهى بالمناسبة القاعة المفضلة للملكة) ولكن فجاة الغيت الفكرة وتقرر أن يلتقى الرئيس بعدد من النواب لا يزيدون على 32 نائبا داخل صالة مغلقة.. لم يصل إلى التأثير المطلوب.
والمعروف أن البرلمان صديق للرئيس وكان نوابه أول من مد الجسور بين مصر وبريطانيا بعد ثورة يونيو التى وصفت هناك بالانقلاب.. كما أنهم زاروا الرئيس بعد انتخابه وقدموا له التهنئة فى سابقة فريدة من نوعها.
وقد أرسل السفير إلى وزارته ما يفيد أنه عرض فكرة وجود الرئيس فى البرلمان على المسئول عن مجموعة أصدقاء مصر فى البرلمان السير جيراهالد هاورث فكان الرد الذى تلقاه منه: «ربما يكون الوقت متأخرا».. واستند السفير على كلمة «ربما» ليبرر رفضه فكرة البرلمان.. دون أن يتذكر أن ذلك حدث يوم 14 أكتوبر.. قبل زيارة الرئيس بأسابيع قليلة.. كما أن الطلب لا يكون لذلك النائب وإنما للجهة المختصة فى البرلمان.. المسئول عنها شخص يوصف بـ «البلاك رود».. فلا شأن للنائب الذى سئل بمثل هذه الأمور التى ليست بيده.. لقد ذهب السفير إلى الجهة الخطأ ليبرر بها الخطأ.. جاء يكحلها فأعماها.
وتؤكد تجربة جيهان السادات فى البرلمان مدى النجاح فى التحدث إلى البريطانيين من منبر فى برلمانهم.. فلم يحدث تجاوز واحد.. ولم يخرج من القاعة نائب واحد.. وخرج الطرفان فى حالة من الود والتوافق.
وسيكون الرد أن الموقف مع الرئيس سيكون مختلفا.. وربما حدث تجاوز.. ولكن.. ذلك كان مستبعدا تماما.. فمن الممكن أن يكون الأتفاق قاصرا على خطاب للرئيس دون تعقيب كما حدث مع الرئيس الصينى.. كما أن السفير لو كان يعرف أصول البروتوكول فى البرلمان ــ التى يفرض أدبا شديدا وشهيرا على النواب ــ لما وضع تلك الحجة المريحة والسهلة فى تبريره.
وحسب القواعد المعمول بها فإن السفير يمول الحفلات من راتبه وبدلاته فهل كان ذلك السبب فى إقامة العشاء على شرف الرئيس فى مكان لا يليق بالرئيس فى مطعم العجائز فى مستشفى رويال؟.
والسؤال هل استعان برجال أعمال فى تمويل الحفل من مليونيرات مصريين يعيشون فى أوروبا مثل أحمد المقدم وعاصم علام مثلا؟.
ولو كان الوزير والسفير يرفضان ما كتبت ووصف بأنه مجرد تقييم صحفى لا يعتد به ولا يؤثر على جهودهما فى نجاح الزيارة حسب رأيهما فإنى لن أجادلهما تضامنا مع موقفهما الضعيف وخوفهما على منصبيهما ولكنى أحيلهما إلى اعتراف السفير البريطانى جون كاسل عندما التقى فى رحلة أخيرة إلى لندن بأن هناك تقصيرا ما حدث من جانب حكومته فى الزيارة.. بل.. وافق على وصف سحب البريطانيين من شرم الشيخ بالتعجل.. سمعت ذلك من مصدر مقرب من البرلمانيين البريطانيين وأن من سمع ليس كمن حضر.
وعاد السفير البريطانى إلى القاهرة مع وفد متخصص يرأسه نائب رئيس مجلس الأمن القومى فى بلاده.. والتقى وزير الخارجية فى مكتبه المطل على نيل القاهرة.
وحسب ما سمعت فإن الجانب البريطانى غير متمسك باختيار شركة بريطانية لتأمين مطار شرم الشيخ لكنه طلب توافر ثلاثة شروط: أن توضع بطاقات هوية على كل العاملين فى المطارات ولو كانوا من الشرطة السرية.. وألا تستخدم أجهزة الموبايل خلال ورديات العاملين.. بجانب أن تكون قواعد التفتيش بمثل ما يحدث فى الخارج.
وعلى شبكات التواصل الاجتماعى لمصريين مقيمين فى لندن ما يؤكد صحة الملاحظات التى ذكرتها من قبل.. وأضافوا إليها غضبا من السفير لأنه لم يوجه الدعوة إلى ممثلين عنهم بعد أن أنفقوا من جيوبهم الكثير ليحتشدوا أمام مقر الحكومة البريطانية وقت وجود الرئيس فيها.. استأجروا أتوبيسات.. واشتروا أعلاما.. واستقبلوا مصريين آخرين جاءوا من دول أوروبية مختلفة حتى أصبح عددهم أضعاف عدد الإخوان الذين وقفوا فى نفس المكان لا يفصل بينهما سوى 10 أمتار.
ربما.. غضب شكرى عندما قلت إنه يخشى منافسه كامل على منصب وزير، من منافسة السفير على منصبه مدللا على وجهة نظرى بتعيين قنصل عام فى لندن بدرجة سفير هو علاء يوسف على خلاف المعتاد ولوحظ انحياز الوزير للقنصل خلال زياراته للندن.. وإن عرفت أن القنصل سفير محترف يستحق مكانا متميزا.
وربما يكمل علاء يوسف نقص ناصر كامل لو استسلم لفضيلة التعامل معه خارج الشئون القنصلية.
والحقيقة أن ناصر كامل أخذ لندن «لوزة» جاهزة بعد أن قشرها له سلفه السفير أشرف الخولى الذى لم يكمل مدته وأعيد إلى ديوان الوزارة بعد عامين قضاهما هناك.
لقد اختير وقت تولى المشير طنطاوى السلطة ووجد نفسه وجها لوجه أمام رئيس إخوانى لكن الظروف الصعبة التى عاشها جاءت بعد 30 يونيو.. فقد اعتبرت بريطانيا أن ما نتج عنها انقلاب عسكرى.. وراحت الخارجية البريطانية ترسم صورة خاطئة لما يجرى فى مصر لرئيس حكومتها بينما كانت سياسة مؤسسات الدفاع والأمن القومى أكثر واقعية.
وعلقت بريطانيا تصدير السلاح والمعدات وقطع الغيار إلى مصر وقررت تخفيض مستوى المشاركة فى بمؤتمر الاستثمار الوزارى الذى كانت ستنظمه فى سبتمبر 2013 تحت مظلة شراكة دوفيل.. وسحبت الرئاسة المشتركة لمبادرة الشرق الأوسط.. وقدمت سفارتها فى القاهرة مذكرة شفهية بلهجة غير مقبولة دبلوماسيا بما يهدد بعدم الاعتراف بالحكومة المصرية.
وحسب ما سمعت من مسئولى الخارجية البريطانية أجريت معهم أحاديث على هامش زيارة الرئيس فإن قوة الخولى أجبرت الخارجية على سحب مذكرة سفيرها فى القاهرة.. ورفعت مستوى التمثيل فى دوفيل إلى المستوى الوزارى وأعيدت الرئاسة المشتركة لمبادرة الشرق الأوسط لمصر.
وتبنت الحكومة البريطانية نهجا مختلفا اسمته بالتفاعل البناء أقرته فى اجتماع مجلس الأمن القومى فى سبتمبر 2013.. مشجعة مصر على مواصلة الاستحقات السياسية التى بدأت بإقرار الدستور.
وفى نوفمبر التالى زار مستشار الأمن القومى البريطانى القاهرة وبعدها أعيد تصدير السلاح إلى مصر خاصة ما يتعلق بمحاربة الإرهاب فى سيناء وسمح للسياح البريطانيين بالعودة إلى مصر.
لقد مهد أشرف الخولى الأرض لناصر كامل وجعلها مستوية تحته.. لكن.. ناصر كامل لم يعط لنفسه الوقت الكافى ليستوعب العقلية البريطانية.. فكان ما كان.. وجاء وزيره ليغطى على أخطائه ولو بالصمت.
دفعنا ثمن المفاعلات النووية من دماء علمائنا ولم ننفذها
لم تعد إسرائيل وحدها فى النادى الذرى للشرق الأوسط
الكتابة مثل العشق لابد أن تشتهيها قبل أن تمارسها.
وقد مللت ــ طوال ستين سنة ــ من الحديث عن «المفاعلات النووية» دون جدوى.. مما أفسد رغبتى فى الكتابة عنها.. وفرض عليها حالة صعبة من الخمول والملل.
يكفى أن تأتى سيرتها حتى يتعطل جهازى العصبى.. ويعجز عن التقاط موجة خفية عنها تعيد حماسى إليها.
لقد عشت تاريخا طويلا من الإحباط النووى جعلنى لا أصدق أن بلادى ستدخل عصر الذرة ولو لإنتاج الكهرباء أو للاستخدام الطبى.
لكن.. فى الساعة الخامسة إلا 17 دقيقة من مساء يوم الخميس الماضى شهدت توقيع اتفاقيات «الضبعة» بين القاهرة وموسكو فى القصر الرئاسى فخرجت غير مصدق ما حدث إلا عندما عادت لى شهية الكتابة عنها.
إن وراء تلك التوقيعات التى استغرقت دقائق معدودة حربا طويلة سرية وعلنية سعت جاهدة لحرماننا من هذا المشهد.. ومثل كل حرب كان هناك شهداء وضحايا وجواسيس.
كنت فى باريس عندما اغتيل عالم الذرة المصرى الدكتور يحيى أمين المشد.. المولود فى بنها يوم 11 يناير 1932.. والمقيم فى الإسكندرية.. والمتخصص فى مجالات تصميم المفاعلات النووية ووسائل التحكم فيها.
بحثا عن عمل ــ بعد تعطيل البرنامج النووى المصرى- سافر المشد إلى بغداد معلما فى معهد تدريب فنى قبل أن تكتشف الحكومة العراقية خبراته فتعهد إليه ببرنامجها النووى وتضمه إلى فريق التفاوض مع الفرنسيين لشراء نوع من اليورانيوم ــ يسمى الكعك الأصفر ــ يمكن تخصيبه بسهولة لإنتاج القنبلة.
فى الساعة السادسة من مساء يوم الخميس 13 يونيو 1980 دخل الدكتور يحيى المشد أحد مصاعد فندق ميريديان بوليفار جوفيون حاملا هدايا اشتراها إلى عائلته ومنها ساعة يد «جوفيال» لابنه المصاب بالسكر وجوارب نايلون لزوجته زنوبة على الخشخانى.
عندما وصل إلى غرفته «رقم 9041» وجد بالقرب منها عاهرة فرنسية ــ سنعرف فيما بعد أنها مارى كلود مجال ــ حاولت إغراءه.. لكنه.. لم يستجب إليها وأغلق الباب فى وجهها.
لم تعرف مارى كلود ما عليها أن تفعل فقد فشلت فى المهمة التى كلفت بها من إحدى وكالات المتعة.. وبقيت فى مكانها حائرة تفكر فى تكرار المحاولة.. لكنها.. قبل أن تطرق الباب سمعت صخبا فى داخل الغرفة.. انصرفت بعده مسرعة.
فى الصباح وجدت عاملة ترتيب النظافة لافتة «عدم الإزعاج» على باب الغرفة فلم تقترب منها.. لكنها.. بعد مرور يوم آخر طلبت من إدارتها دخول الغرفة خشية أن يكون ساكنها قد تعرض إلى أزمة صحية.. وعندما استجيب إليها وجدت المشد غارقا فى دمائه بعد أن ضرب بآلة حادة على رأسه.
صورت الميديا الفرنسية الحادث على أنه جريمة جنسية فقد تعمد الجناة ترك آثار نسائية على الفراش ومناشف الحمام.
وقبل أن تغلق الشرطة محضر تحقيقها مع مارى مجال صدمتها سيارة مرسيدس سوداء مسرعة وهى تعبر الطريق ليختفى الشاهد الوحيد على الجريمة.
كنت أسكن الحى اللاتينى عندما عرفت بما حدث فبدأت تحقيقى الصحفى الذى أنتهى بكتاب « الموساد واغتيال المشد».
وبعد 18 شهرًا من صدور كتابى اعترف جهاز الموساد بالحقيقة التى توصلت إليها عندما نشر أحد ضباطه ــ هو بيتر ستروفيسكى - كتاب «بطريق الخداع» كاشفا تفاصيل الحادث قبل حرب الخليج الأولى بأيام.
لقد جندت المخابرات الإسرائيلية شابا عراقيا (حليم) راح يتقرب إلى المشد.. وذات مساء سأله عن معلومة يريد الموساد معرفتها منه.. وإلا تعرض للإيذاء.. لكنه.. نهره قائلا: «إننا بما نفعل نغير وجه التاريخ العربى وهذا ما تخشاه إسرائيل».
كان الإسرائيليون يعرفون أن المشد ليس «أكلة سهلة».. وكان عليهم التعامل معه بسرعة قبل أن يغادر باريس.. فطرق ضابط الموساد يهود جيل باب غرفته بعد أن لمح مارى مجال تقف بالقرب منها.. لكنه.. تجاهل وجودها.
فتح المشد الباب مواربا تاركا السلسلة مربوطة فى الداخل وسأل الزائر : «من أنت وماذا تريد؟».. أجاب جيل : «إننى رسول قوة ما سوف تدفع لك أموالا طائلة إذا ما أجبت غت أسئلتها».. فرد المشد غاضبا: «اذهب إلى الشيطان ياكلب وإلا ابلغت الشرطة عنك».
غادر جيل الفندق إلى المطار.. وقبل أن تقلع طائرته عرف أن مهمة قتل المشد قد نفذت حسب الخطة البديلة.
كان قتل المشد جزءا من عملية أكبر سميت «عملية سفنكس» للتخلص من كل عملاء الذرة المصريين الذين تخرجوا فى قسم الهندسة النووية بجامعة الإسكندرية وتلقوا دراساتهم العليا فى جامعات موسكو.
كانوا يخيرونهم بين الهجرة أو القتل فآثر أغلبهم السلامة وترك بلاده ليعمل فى جامعات أوروبية وأمريكية.. وكان الموت من نصيب من رفض وعاند.. ووصل عددهم إلى 12 عالما متخصصا فى تصميم المفاعلات وتخصيب اليورنيوم.
كان الهدف أكبر.. تدمير برنامج الذرة فى مصر.. لتصبح إسرائيل وحدها مالكة القنبلة النووية فى الشرق الأوسط.
وما يلفت النظر.. أننى عندما زرت قسم الهندسة النووية بحثا عن ملف المشد وجدت القسم مهجورا.. لا يقبل عليه أحد.. وانتشرت على جدرانه المهملة ملصقات تدعو إلى الحجاب.. والجهاد.
كانت تلك الملصقات نهاية غير متوقعة لمشوار طويل كانت بدايته مختلفة تماما.
فى عام 1955 أبدت إدارة الرئيس الأمريكى داويت أيزنهاور استعدادها لبناء أول مفاعل نووى فى مصر لا تزيد قوته على خمسة ميجاوات ويسمى «بركة السباحة» تحت برنامج ذرة من أجل السلام.. لكنها.. تراجعت عن تسليمه بسبب سياسة الحياد الإيجابى التى تبناها عبد الناصر وتحوله ناحية التسليح السوفيتى الذى وقع أولى صفقاته فى ذلك العام.
فى العام نفسه أنشئت هيئة الطاقة الذرية فى إنشاص بالقرب من حدائق المانجو التى كان يمتلكها الملك فاروق.. وبعد عامين أقيم مركز النظائر المشعة فى جامعة الإسكندرية.
وفى العام نفسه أيضا قررت إسرائيل البدء فى إنتاج القنبلة النووية وسعت إلى بناء مفاعل ديمونة وفى الفترة ما بين عامى 1968 و1973 دخلت نادى السلاح النووى.
فى عام 1961 حصلت مصر على مفاعل سوفيتى للأبحاث بقوة (2) ميجاوات بنى فى إنشاص.. وتعهدت موسكو بإمداده بالوقود اللازم.. وفيما بعد بنيت وحدة صغيرة ملحقة بالمفاعل لإعادة معالجة الوقود.
بعد عامين دخلت مصر فى مفاوضات مع بريطانيا لبناء مفاعل بقدرة 130 ميجاوات.. ولكن.. المفاوضات فشلت.. لتبدأ مفاوضات أخرى للحصول على مفاعل قوته 150 ميجاوات لتحلية مياه البحر وتوليد الكهرباء فى منطقة برج العرب على مرمى البصر من استراحة عبدالناصر هناك.. لكن.. المشروع سرعان ما وضع على الرف.
ونجحت المخابرات المصرية فى تجنيد عالم إسرائيلى من أصل فرنسى يعمل فى معهد التكنولوجيا (تكنيون) اسمه جان روبير.. حصلت منه على معلومات عن المفاعل النووى فى ديمونة.. ولكن.. فى عام 1970 قبض عليه.. وحكم عليه بالسجن 10 سنوات.. وسعت المخابرات المصرية لتهريبه.. وفى يوم 2 ديسمبر 1973 وجد فى فناء سجن الرملة اثنين من المساجين همسا فى أذنه بخطة هروب محكمة وجاهزة.. على أنه رفض.. وفى 3 مارس 1974 هرب السجينان إلى القاهرة.. وبقى جان بيير فى زنزانته إلى أن أفرج عنه ليبقى فى حيفا حتى وفاته (محمود مراد ــ جاسوس فى القاهرة ).
وفى عام 1963 أرسلت المخابرات الإسرائيلية طروداً ملغومة إلى العلماء الألمان الذين جاءوا إلى مصر بعد سقوط النازية (500 عالم) واستعان بهم عبد الناصر فى صناعة الصواريخ واستفاد من خبرتهم النووية التى اعتمد عليها العالم فى إنتاج القنبلة الذرية.. وتسببت تلك الطرود الناسفة فى هروبهم من مصر.
بعد خمس سنوات وقعت مصر على اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية وإن لم تصدق عليها إلا عام 1981 قبيل رحيل السادات بشهور قليلة.
فى عام 1981 أيضا ضربت الطائرات الإسرائيلية المفاعل النووى العراقى بعد أن دمرت معداته فى مارسيليا قبل شحنها إلى بغداد.
لكن.. قبل ذلك.. وفور رحيل عبد الناصر سعت الولايات المتحدة إلى تعاون نووى مع مصر.. وأعدت دراسة عن احتياجات مصر النووية أصبحت جاهزة عام 1973.. ركزت بالطبع على الاستخدام السلمى للذرة.. خاصة فى توليد الكهرباء.
حسب تلك الدراسة فإن مصر فى عام 2000 ستحتاج 17 ألف ميجاوات من الكهرباء بينما المصادر التقليدية للتوليد لن تفى بأكثر من 12 ألفا.
وتقرر بناء 10 مفاعلات نووية قبل عام 1990 تبلغ طاقتها 7200 ميجاوات وتقام فى القاهرة والعريش والصعيد بالإضافة إلى محطتين فى سيدى كرير.
لكن.. المعارضة السياسية للسادات خلقت حركة مضادة للمحطات النووية.. وساد اعتقاد بأنه سيجد فى المشروع ذريعة لقبول دفن النفايات النووية فى الصحراء الغربية مقابل أموال يحصل عليها من دول أوروبية تعرض ذلك كما فعل الرئيس السودانى فى ذلك الوقت جعفر نميرى.
وباغتيال السادات انتهت تلك المرحلة.
خفت حدة المعارضة النووية بعد تولى مبارك الحكم.. ومن جانبه واصل مبارك مشوار المحاولة.. واتفق مع الرئيس الليبى معمر القذافى على تمويل مفاعلات نووية أمريكية.. واختيرت الضبعة ــ بعد دراسات جغرافية ومناخية مكلفة ــ مكانا مناسبا لإقامتها.
وعادت من جديد المفاوضات النووية بين القاهرة وواشنطن بعد أن توقفت فى عام 1979 بسبب خلافات مالية ولرفض القاهرة إجراءات التفتيش المتشددة التى أرادت واشنطن فرضها.
وافقت الولايات المتحدة على توريد مفاعلات إنتاج الكهرباء بعد أن صدقت مصر على اتفاقية منع تداول المواد النووية.. وخشية تنفيذ بروتوكول التعاون النووى الذى وقعه السادات مع فرنسا قبيل اغتياله وبمقتضاه تزود فرنسا مصر بمفاعلين يعملان بالماء الثقيل.. بجانب مفاعلات طاقتها ألف ميجاوات توردها مؤسسة فراماتوم بتكلفة مليار دولار.
واحتجزت مصر 500 مليون دولار سنويا من عائدات البترول للانفاق على برنامجها النووى الذى قدرت تكلفته ــ حتى عام 2000 ــ بنحو 10 مليارات دولار.
وتضمن البرنامج خطة طموحاً للكشف عن اليورانيوم (بمساعدة ألمانيا) فى خمسة مواقع فى سيناء وسبعة مواقع فى الصحراء الغربية.. وبدأ الإنتاج بالفعل فى ثلاثة مواقع.. وأمكن رفع نحو 150 طنا من اليورانيوم الخام.
ودخلت كندا على الخط ووافقت على مساعدة مصر فى بناء مصنع لمعالجة اليورانيوم الخام وتنقيته.
ووافقت أستراليا على تزويد مصر باليورانيوم.
وتعهدت ألمانيا بإضافة توسعات إلى المفاعل السوفيتى لرفع طاقته إلى 5 ميجاوات.
وزودت بريطانيا جامعة القاهرة بمركز أبحاث نووى.
وتعاونت النمسا مع مصر فى وضع خطة آمنة لدفن النفايات والتقليل من مخاطرها.
لكن.. كل هذه الجهود ضاعت هباء بعد حادث تشرنوبيل.
احتوت محطة كهرباء تشرنوبيل على أربعة مفاعلات قديمة تعود إلى عام 1975 لإنتاج الكهرباء التى تغذى أوكرانيا.. وفى عام 1982 انصهر المفاعل الأول دون الإعلان عنه وجرى إصلاحه ليعود إلى الخدمة بعد ثلاث سنوات.. لكن.. يوم السبت 26 إبريل 1986 وقعت الكارثة الكبرى وانفجر سقف المفاعل الذى يزن 2000 طن من الفولاذ وخرج إلى الهواء ما يساوى 8 أطنان من الوقود النووى وتسربت مواد خطيرة مثل اليورانيوم والبلوتونيوم.
ويرجع السبب إلى عدم خبرة الفنيين الذين كانوا يقمون بتركيب توربين معطل وارتكبوا أخطاء تقنية نتج عنها وفاة 36 شخصا منهم وأعلنت المدينة منطقة منكوبة وأجلت السلطات سكانها وبدأت عمليات التخلص من الإشعاعات الضارة التى أدت إلى وفاة ألفى شخص حسب تقدير موسكو أو 8000 شخص حسب تقدير أوكرانيا.
كانت تلك الأرقام كفيلة بأن يجمد مبارك ــ المشهور بتحفظه ــ مشروعات الكهرباء النووية ودعم موقفه قرار صدر عن مجلس الشعب.
لكن.. كانت هناك أسباب أخرى ظهرت فيما بعد ضاعفت من ذلك الجمود.. منها رفض حكوماته المتعاقبة وآخرها حكومة أحمد نظيف الاستجابة لطلبات تطوير هيئة الطاقة النووية.. وإخراجها من العفن البيروقراطى الذى غرقت فيه.
والأهم.. رفض رجال الأعمال المرتبطين بالسلطة بناء مفاعلات نووية فى الضبعة بعد أن كسبوا مليارات الجنيهات من بناء القرى السياحية فى الساحل الشمالى.. وكان على رأس هؤلاء إبراهيم كامل مالك قرية غزالة الملاصقة لموقع الضبعة وكان أول من أدخل فكرة التوريث فى عقل الحكم.
■ المخابرات المصرية جندت جاسوسًا فى مفاعل ديمونة وعند القبض عليه رفض خطة لتهريبه
وفى عام 2004 حسمت حكومة نظيف الجدل الدائر حول الضبعة وأعلنت أنها ستقيم مشروعات سياحية على أرضها.
لكن.. بعد أربع سنوات عاد مبارك ليتحدث من جديد عن بناء محطات نووية فى الضبعة.. ونسب إليه إنه عندما التقى إبراهيم كامل قال له: «انسى الضبعة يا إبراهيم».. على أن المعارضة السياسية للحكم فسرت تغير موقف مبارك المفاجئ بأنه دعاية مسبقة لتوريث ابنه السلطة.. فلم تتخذ إجراءات عملية لتنفيذ المشروع.. وتحفظت التصريحات الرسمية فى كشف ما يحدث فى الغرف المغلقة.. مما جعل الرأى العام يشعر بأنه يتعرض إلى خدعة يصعب قبولها.
دموع فرحة محبوسة ستين سنة فى العيون
لم يتلق الرئيس منا هدية فى عيد ميلاده يوم 19 نوفمبر وإنما قدم هو إلينا الهدية.. اتفاقات الضبعة لبناء محطتى كهرباء الضبعة بثمانية مفاعلات نووية بعد مباحثات مطولة ومكثفة مع روسيا انتهت بتقرير من وفد كان فى موسكو قبل أيام من عرض التقرير النهائى على مجلس الأمن القومى تمهيدا للتوقيع عليه.
ستمول روسيا المحطتين بالكامل بقرض لن يبدأ سداده إلا من عائد تحصيل الكهرباء المنتجة.. سيحدث ذلك بعد 13 سنة.. منها 11 سنة للبناء والتصنيع والتركيب.. بجانب عامين للتجريب.. لضمان الحماية النووية بكل وسائل الأمان الحديثة والمتطورة.
ستكون هناك فائدة بنكية صغيرة ينسب للرئيس نفسه التفاوض بشأنها يبدأ حسابها منذ بدء سداد القرض على مدى 22 سنة.
ربما لن يستمتع جيلنا بكهرباء الضبعة لكن الأجيال الشابة ستجنى ثمارها ليس فقط فى الإنارة والصناعة وإنما وهذا هو الأهم فى خلق قاعدة علمية متطورة عند قمة الأبحاث النووية التى تدخل الآن فى غالبية مجالات الحياة.. الطب والزراعة والهندسة الوراثاة.. مثلا.
وربما لم يكن المقبول فى هذه المناسبة العلمية رفيعة المستوى أن يعانى الوفد الروسى من سماعات الترجمة المصنوعة فى الصين.. بنفس القدر الذى عانينا ونحن لا نسمع صوت الرئيس وهو يلقى كلمته فى قاعة مفتوحة تحتاج إلى تجهيزات خاصة للصوت.
لكن.. ذلك كله يهون ونحن نشهد تلك اللحظات التاريخية التى طال انتظارها وعانينا فيها من إحباط وصل إلى اليأس.. وربما لتلك السيرة القديمة السيئة برقت الدموع فى عيوننا.. دموع شارك فيها غالبية المصريين فى القاعة بعد أن حبست ستين سنة تحولنا فيها من التطوير إلى التكفير.. ومن التوافق إلى الاختلاف.. ومن العلم إلى الخرافة.. ودستور يا أسيادى.