رشا سمير : نابليون سُلطان مصر الأعظم

مقالات الرأي


من أعظم العقبات التى قابلت نابليون فى حكم مصر، هو كونه حاكم بلا شرعية إسلامية، حيث أنه كان خليط من المسيحية الكاثوليكية الأوروبية مما جعل تقبله لدى الشعب المصرى المُسلم أمر فى غاية الصعوبة.

وقتها كتب عالم الأحياء الفرنسي سانت هيلاير:(( أن النساء فى مصر لا يتوقفن عن النحيب بسبب الخوف من إجبارهن على تغيير ديانتهن على يد نابليون وجيشه )). أنذاك قرر نابليون أن يجد حلا للدخول إلى قلوب المصريين بشكل شرعى ومقبول، بل ومُرحب به من قبل عامة الشعب..أدرك نابليون وقتها أن المتشددين من المسلمين لا يرتضون أبدا العيش تحت حكم غير إسلامى إلا فى حالة واحدة فقط، وهى كون الحاكم مُتسامحا وقادرا على إتاحة المساحة لهم لممارسة شعائرهم الدينية بلا قيود ولا تعسف طائفى.. وهكذا أيقن نابليون بحنكته السياسية أن السبيل الوحيد للإستيلاء على الحُكم هو إرتداءه عباءة الدين الإسلامى، حتى ولو إضطر إلى تهذيبها لتُصبح على مقاسه الخاص..

وفى صبيحة الإحتفال بعيد وفاء النيل أمر بزخرفة سفينة النهر العقبة وقرر أن يتواجد بنفسه هو وجنرالاته فى الإحتفال بل وقام بتوزيع الهدايا على الأطفال، وأمر الفرقة الموسيقية بعزف مزيج من الموسيقى الفرنسية والعربية كنوع من المشاركة الروحانية للمسلمين بأعيادهم، ولكن عينه لم تكن على عيد وفاء النيل بحسب، لكنها كانت مجرد خطوة للتقرب من الأعياد الدينية الأكثر أهمية بالنسبة لهم..

وهكذا إنتظر نابليون المُناسبة التى تليها بكل شغف حتى يستطيع التقدم خطوة أخرى فى طريق السيطرة على قلوب المصريين، وكانت الخطوة هى مولد الرسول (ص)، ولكن حين أبلغه سيد خليل البكرى بأن الموقف غير مُستقر، وأن سادة القوم ليس لديهم أموالا ليرعوا الإحتفال بالمناسبة، هنا أيقن بونابارت أن الفرصة الذهبية قد أصبحت بين يديه، فقرر تمويل الإحتفال على نفقته الخاصة ومنح الشيخ البكرى 300 فرانك فرنسي للإنفاق على الإحتفال..

هكذا قرر نابليون لعب دور السلطان الفرنسي المتأسلم، حتى قرر بالفعل أن يعتنق الإسلام.. ومن الواضح أن بونابرت كان يحاول استغلال الدين إلى أقصى حد، فكتب لقائده كليبر في الإسكندرية يقول له : (إننا إذا كسبنا تأييد كبار شيوخ القاهرة كسبنا الرأي العام في مصر كلها، فليس بين زعماء الأمة كلهم من هو أقل خطراً علينا من الشيوخ، فهم جبناء عاجزون عن القتال يوحون ـ كجميع رجال الدين ـ بالتعصب دون أن يكونوا هم أنفسهم متعصبين).

بل الأكثر من ذلك أن بونابرت كان يتجوّل، وهو يرتدي الملابس الشرقية والعمامة والجلباب، ويتردد على المساجد في أيام الجمعة، ويساهم بالشعائر الدينية التقليدية بالصلاة.

والطريف أن قادة الفرنسيين كانوا يعلنون أن ما يمنعهم عن الإسلام هو عدم تمكنهم بقبول الختان، والإقلاع عن الخمر!، فرأى بعض المشايخ المنافقين إمكان إصدار فتوى بأن الختان نافلة وليس فرضاً، وأن المسلم يمكن أن يشرب الخمر، ولكنه يصبح مسلماً عاصياً!!

إن مصر قُدر لها أن تُغزى على مر العصور باسم الدين، فالشعب المصرى على قدر ذكاؤه وجلده إلا أنه شعبا يمتاز بطيبة القلب، والقدرة الغير مفهومة على النسيان مما يترتب عليه وقوعه فى نفس الخطأ مرات ومرات..

فالمرشح الرئاسي الذى إرتدى العمامة والجلباب كان هو بلا شك المرشح الفائز..والبرلمان الذى أطال لحيته كان برلمان الأخوان الذى أثار جدلا واسعا ما بين الإلغاء والبقاء..والحزب الذى تحدث إلى الغلابة بإسم الجنة والنار كان هو حزب العامة والفائز بأغلبية المقاعد.. حتى الإعلاميون والسياسيون والكُتاب الذين قرروا فجأة إشهار إنتماؤهم للإسلاميين (وكأنهم كانوا بالأمس من كفار قريش ومهد لهم حزب الحرية والعدالة طريقا إلى الجنة) أصبحوا هم فرسان المرحلة..

إنها المرة المليون التى يتوارى فيها المنتفعون خلف ستار الدين.. وهى المرة المليون التى يتم فيها غزو مصر قلبا وعقلا بإسم الدين..

لكن دعونا لا ننسي أن ما أفشل دجل نابليون في تظاهره بالإسلام هى الظروف التى ألجأته إلى الكشف عن نفسه كغازٍ ذي أغراض سياسية، وهى شعوره بالحصار في مصر وضرورة تطوير أسلوب الحياة فيها بما يتفق مع المصلحة الفرنسية، والأزمات المالية المتعاقبة، وإعلان السلطان العثماني الحرب على الفرنسيين، فعرف المصريون أن السلطان (صديق الفرنسيين المزعوم) يحاربهم، وقرأ المشايخ ورجال الدين منشور السلطان على الشعب، وهكذا كانت ثورة القاهرة الكبرى.

ودعونا نتصور أن الأطفال ربما ينخدعون بالساحر لفترة ما نظرا لبراعته فى تقديم الحيلة، ولكن سرعان ما يكبرون ويكتشفون أنها كانت قطعة دجل يُمارسها شخص بإحتراف.. قد تخدع العين لحظة، وقد تُذهب العقل لحظة، ولكنها دون شك، تبقى خدعة مؤقتة تزول بمجرد زوال لحظات الإنبهار..

لقد ذهب كل مصرى إلى صندوق الإنتخاب واختار بإقتناع تام برلمان أخوانى ورئيس أخوانى ودولة أخوانية، فى محاولة لرد الصفعة لنظام مبارك الظالم.. لم تكن قناعتهم تامة، ولم يكن إختيارهم صائبا بكل المقاييس ولكن فى ذلك الوقت كان التغيير واجبا، والإختيار لم يكن إختيار لتيار بعينه ولكنه كان إختيار لدولة الحق..

فاختيار برلمان اللُحى كان محاولة بائسة لتوصيل أصوات الكادحين إلى قبة البرلمان..لكنها فُقدت فى الطريق..

وإختيار حزب الحرية والعدالة كان أملا لكل من ساعدهم الحزب طوال الأعوام الماضية ماديا ومعنويا على إستكمال مشوار العدالة من خلال التكافل الإجتماعى الذى يقوم به الحزب..لكنه ضل الطريق..

بكل أسف إكتشف الشعب المصرى مؤخرا إن ما كان يجرى وراءه لم يكن سوى سراب، واكتشف أغلب المصفقين لأصحاب الرؤى الدينية السياسية المختلطة أنها خدعة جديدة، وأن عودة نابليون لمصر فى ثوب جديد لم تكن أبدا مستحيلة..

إن إنتخابات البرلمان القادمة قد تكون الإمتحان الأخير لشعب بلا ذاكرة، وربما يكون الإستفتاء على الدستور هو المحنة والمنحة الباقية لوطن يتعثر..

إنها مصر مرة أخرى..إنها الهدف من جديد.. ولكن هل سنتعلم هذه المرة أم ستصبح المرة المليون وواحد؟!..