د.نصار عبد الله يكتب: خليل كلفت.. وداعاً
منذ يومين رحل عن عالمنا الباحث الجاد والمثقف الأصيل والفنان المبدع والناقد نادر المثال خليل سليمان كلفت، ورغم أنى عرفته منذ أواخر ستينيات القرن الماضى إلا أن صلتى به للأسف الشديد لم تتجاوز حدود تبادل التحية كلما لقيته ولم تبدأ فى التوثق إلا فى العام الماضى فقط فى مناسبة سوف أشير إليها بعد قليل، عموما فإننى لم يقدر لى أن أدرك قيمته الحقيقية ككاتب وباحث نادر المثال إلا بعد أن تركت القاهرة وأقمت فى سوهاج، على وجه التحديد عندما بدأت أتعامل مع شبكة الإنترنت وأقرأ من خلالها ما هو متاح من أعماله على الشبكة، حيث أدركت حينئذ أننى إزاء نموذج فذ من الثقافة الوطنية الحقيقية يختلف اختلافا بينا عن هؤلاء الذين يملأون الدنيا ضجيجا وصياحا بينما داخلهم محض خواء، وهو ما جعلنى أندم على أنى لم أحاول تعميق صلتى به عندما كنت من سكان القاهرة، وعندما كنت فى أواخر الستينيات من القرن الماضى وأوائل السبعينيات دائم التردد على ندوة نجيب محفوظ التى كانت تعقد إذ ذاك فى مقهى ريش فى مساء كل جمعة، وكان خليل كلفت رحمه الله وجها من وجوهها الدائمة، فى العام الماضى تعرضت لحملة شعواء لم أكن أتوقعها بدأت من موقع فيسبوك الذى لم أكن وقتها أتصفحه أو أتابعه رغم أن لى حسابا فيه لم أكن فى ذلك الوقت ملما إلماما تاما بكيفية استخدامه ولهذا السبب فقد كنت أكتفى باستخدام بريدى الإليكترونى على موقع جوجل أو موقع ياهو، ولم يخطر ببالى إطلاقا أن الفسابكة قد بدأوا يتناقلون مقالا كنت قد نشرته فى «المصرى اليوم» أتناول فيه التجربة البرازيلية فى التعامل مع أطفال الشوارع بعد أن تأولوه تأولا خاطئا وفسروه بأنى أدعو إلى إبادة أطفال الشوارع فى مصر أسوة بما فعلته البرازيل.. وهكذا انهالت على اللعنات من كل حدب وصوب، ووصلتنى إيميلات على حسابى الإليكترونى فى جوجل تتضمن أفظع الشتائم وأكثرها بذاءة.. كل هذا وأنا غافل عما يتناقله الفسابكة فى موقع فيسبوك وما بدأت تتناقله عنه الفضائيات ووكالات الأنباء العالمية إلى أن اتصل بى رئيس التحرير لافتا نظرى إلى حجم رد الفعل المتصاعد طالبا منى أن أكتب توضيحا!.. على أية حال ليس هنا مجال الحديث عن تلك الواقعة التى تبين فيما بعد من هم الذين أطلقوا شرارتها الأولى وتابعهم فى ذلك كثيرون من هواة السير فى أى زفة واعتلاء أى موجة والظهور بمظهر المعبرين عن ضمير الرأى العام ورافعى راياته دون أن يكلفوا أنفسهم عناء القراءة والتفكير والتدقيق،.. الذى يعنينى هنا هو تلك القلة القليلة من المفكرين المحترمين الذين رفضوا أن يرددوا ما يقوله الآخرون كالببغوات وعلى رأس تلك الفئة المفكر الكبير جلال أمين، والإعلامى اللامع حسام السكرى الذى وجد فى نفسه الشجاعة لكى يراجع نفسه ويقرر أنه واحد من الذين انساقوا فى بداية الأمر للهجوم على كاتب المقال فى تغريدة من تغريداته لكنه بعد القراءة المتأنية يستطيع أن يقرر باطمئنان أن المقال ليس فاشيا كما أشيع عنه ولكنه مقال ضد الفاشية! ومن بين هؤلاء الكتاب الشجعان كذلك الأستاذ جمال الجمل والأستاذ نبيل عمر والأستاذ مدحت بشاى والأستاذ خال حريب والأستاذ خالد حنفى والدكتور فارس خضر.. نأتى الآن إلى خليل كلفت الذى سبق له أن ترجم من بين ما ترجم كتاب «عالم جديد» تأليف فيديريكو مايور چيروم بانديه بالاشتراك مع شقيقه على سليمان كلفت وهو كتاب يتناول مشكلة أطفال الشوارع فى أنحاء مختلفة من العالم من بينها البرازيل أى أنه عندما يكتب عن مقالى فهو يكتب من موقع باحث دارس لا من موقع غوغائى مزايد وهكذا فقد فاجأنى خليل كلفت بتعقيب هو فى الحقيقة بمثابة دراسة موضوعية متعمقة مدققة كعادته نشرها فى موقع الحوار المتمدن الإليكترونى بتاريخ 24/6/2006، أوضح فيه مدى تهافت تعقيبات مثقفى التيك أواى حول مقالى (الذى صك هذا التعبير هو الأستاذ سيد الوكيل فيما أشار الأستاذ كلفت) وقد اختتم الأستاذ كلفت مقاله أو دراسته الضافية بقوله: «ولو أن الدكتور نصار عبدالله، أو غيره، جرؤ على ترويج حل إبادة أطفال الشوارع للتخلص من ظاهرتهم المتفاقمة فى مصر لكان علينا جميعا أن نقف ضده بكل قوة. لكن من غير الإنصاف أن نسارع إلى تكفيره إنسانيا ووصمه بأنه قاتل أطفال بالغ الشراسة، مع أنه شخص «غلبان» مثلنا جميعا ولا يضمر صدره أىّ شرّ مستطير. والحقيقة أن كل ما نجحنا فيه هو أننا شغلنا المصريِّين عن قضاياهم الحقيقية بقضية مفتعلة، قضية أن بيننا قاتل أطفال؛ وليتنا نُبْدِى معشار هذا الحماس لمعاناة الملايين من أطفال الشوارع فى القاهرة والإسكندرية وفى كل مصر» ..رحم الله خليل كلفت الذى لم أعرفه حق المعرفة إلا فى الوقت الذى يفرز فيه المرء معادن المثقفين فيتبين الغث من السمين .