عادل حمودة يكتب: السيسى فى لندن

مقالات الرأي




■ 44 نائبًا يعترضون على الزيارة و606 يقبلونها
■ كين ماكدونالد «المدعى العام السابق» يفشل فى مقاضاة السيسى أمام الجنائية الدولية
 ■ أسرار مهمة جيهان السادات أمام البرلمان البريطانى قبل الزيارة بساعات
■ تدريب 31 ضابطًا مصريًا فى الجيش البريطانى على تفكيك القنابل والعبوات الناسفة

أكتب إليكم من « لندنستان».. العاصمة البريطانية سابقا. الوصف للكاتب البريطانى مارك كورتيس وضعه عنوانا لفصل فى كتابه «شئون سرية الإمبراطورية البريطانية والإسلام المتطرف» الذى نشر منذ 3 سنوات.

لندنستان التى يزورها الرئيس عبد الفتاح السيسى منحت «عهد الأمن» لغالبية التنظيمات المتشددة.. وسمحت لثلاثة آلاف إرهابى بالعيش على أرضها.. وتغاضت عن عملياتهم الخارجية فى أوروبا مقابل أن لا يسفكوا دماء أهلها.. بجانب قبولهم بدور المخبر أو المرشد للشرطة والمخابرات.. وإستخدامهم فى الضغط على حكوماتهم لتحقيق مصالح خارجية.

لقد منحت تلك السياسة الانتهازية ضوءا أخضر للإرهاب وشجعت على انتشاره حتى انقلب السحر على الساحر وذاقت لندنستان من نفس الكأس وشمت رائحة الشياط وبكت على عشرات من مواطنيها الذين قتلوا فى تفجيرات إرهابية مدوية ومؤلمة.. فالعهد مع الشيطان لا يدوم.. إلا قليلا.

أنفجر صندوق الديناميت فى وجه الذين سكتوا على تخزينه تحت سمعهم وبصرهم وحمايتهم.

لكن.. «يموت الزمار واصبعه يلعب».

فقد انتقل الدعم البريطانى من «القاعدة» و«الجهاد» و«جند الله» وغيرها من التنظيمات المسلحة إلى التنظيم الدولى للإخوان بدعوى أنهم جماعة معتدلة وليسوا تنظيما إرهابيا مقاتلا.

بدأت تلك السياسة عام 2006 بخطاب تونى بلير الشهير الذى تحدث فيه عن ضرورة تمكين «الإسلام المعتدل من أسباب القوة» مؤكدا أن «بقاء الهيمنة الغربية فى العالم يعتمد جزئيا على انتصار الإسلام المعتدل الذى يعد حليفا للغرب فى وجه صعود الصين وروسيا وغيرها من البلدان النامية».

وحسب وثائق حكومية سربت إلى صحيفة نيوستاتسمان فى نفس العام فإن هناك فى العالم الإسلامى قوى معارضة ينبغى على بريطانيا أن تعمل معها خاصة الإخوان فى مصر». ومشيا وراء السياسة الأمريكية على خط مستقيم دعت وزارتا الداخلية والخارجية فى بريطانيا إلى الحوار مع جماعة حسن البنا فى مصر وجماعة أبو الأعلى المودودى فى باكستان وهما أقدم المنظمات الإسلامية التى تعاونت بريطانيا الاستعمارية معها فى الماضي.. بل يمكن القول إنها ساهمت فى تأسيسها وتمويل مؤسسيها.

لكن.. انشق على هذه السياسة سفير بريطانيا فى مصر وقتها السير ديرك بلوملى الذى حذر من «المهالك الحقيقية التى تنتظر بلاده على أثر تشجيعها الإخوان ليصلوا إلى السلطة فهم فى النهاية قوة معادية للغرب سرعان ما ينقلبون عليه». على أن الطرف الآخر برر ما يفعل بأن «تعامل بريطانيا مع الإخوان يعد تأمينا لنفسها فى حالة تغيير نظام مبارك.. ذلك أن مستقبل مصر محفوف بالشكوك بعد وفاة مبارك أو سقوطه بجانب توقعات قيام ثورة ضده.. الإخوان فى تلك الحالات يستطيعون القيام بدور فى الحكم أو فى الفترة الانتقالية.. خاصة أن بريطانيا تعتبر الجماعة منذ زمن بعيد مصدا قويا للقوى العلمانية المعارضة فى مصر فى المنطقة مثل حركة كفاية التى أطلقها القوميون واليساريون والعلمانيون لتحدى نظام مبارك ولم يأت ذكرها فى البرلمان البريطانى أو موقع وزارة الخارجية على الشبكة العنكبوتية حتى أوائل عام 2010».

ويضيف مارك كورتيس فى كتابه: « إن الحكومة البريطانية تؤمن بأن الإخوان يشجعون على الإرهاب ويحرضون عليه وإن أبتعدوا عنه بعد أن مارسوه كثيرا من قبل.. لكن السلطات البريطانية المختصة بذلك الملف تغاضت عن علاقات الإخوان مع التنظيمات الإرهابية بما فيها حماس وأدعت البراءة السياسية.

تلك الخلفية ضرورية لتفسير ما سيواجه السيسى من اعتراضات خلال زيارته إلى لندنستان التى يمكن وصفها بأنها زيارة إلى مكتب الإرشاد.. أو زيارة إلى المقر الدائم للتنظيم الدولى.

لقد وجهت الحكومة البريطانية الدعوة للرئيس السيسى فى يونيو الماضى وترددت أنباء عن بدئها فى يوليو التالى ولكن ذلك لم يكن صحيحا.. وربما.. راجعت ترتيباتها فوجدت من الأفضل تأجيلها لضمان نجاحها.

فى منتصف سبتمبر بدأ وزيرا خارجية البلدين (سامح شكرى وفيليب هاموند) وضع الترتيبات النهائية للزيارة التى تكتم الطرفان تحديد موعدها (فى يوم 4 نوفمبر) واكتفت المتحدثة بأسم الخارجية البريطانية بالقول: «إنها ستكون قبل نهاية العالم».

وفى بداية أكتوبر التقى السيسى بوفد من مجلس اللوردات (الغرفة العليا فى البرلمان).. واستنادا للمتحدث الرسمى للرئاسة علاء يوسف فإن الوفد الزائر تطلع إلى زيارة السيسى المرتقبة إلى بريطانيا مؤكدا أنها ستشكل تطورا هاما فى العلاقات بين القاهرة ولندن.

ولكن.. ذلك لم يمنع 44 عضوا فى البرلمان من تقديم طلب للحكومة البريطانية بإلغاء الزيارة.. وهو رقم متواضع إذا ما قيس بعدد أعضاء مجلس العموم الذى يصل إلى 650 عضوا بخلاف مجلس اللوردات.

قدم الطلب فى شهر يوليو ووقعه نواب فى المعارضة.. منهم وزيرة الظل للتنمية الدولية ديان أبوت.. والنائبة عن حزب الخضر كارولين لوكاس.. ورئيس اتحاد النقابات أندرو موراى.. وعدد من الصحفيين والسينمائيين. لم تخرج الاحتجاجات على الزيارة عن ما سبق طرحه فى زيارات أوروبية أخرى وأبرزها المانيا.. منها أحكام الإعدام.. وسجل حقوق الإنسان.. ووضع المعارضة فى السجن.. لكن.. مؤكد أن مساحة الغضب زائدة هذه المرة.. فقوة التنظيم الدولى للإخوان فى بريطانيا يصعب تجاوزها أو الاستهانة بها.

ويتستر الإخوان فى لندن تحت غطاء ما يسمى «المجلس الثورى المصرى» الذى تأسس فى إسطنبول بعد سقوط حكم الجماعة وترأسته مها عزام التى أرسلت إلى جريدة الجارديان رسالة إحتجاج على الزيارة وقعها معها أنس التكريتى رئيس مركز أبحاث قرطبة الذى وصف كاميرون مؤسسته بأنها واجهة للإخوان.. وسبق أن جمدت أمواله فى البنوك بدعوى تمويل الإرهاب.

كما يتسترون تحت غطاء «الحركة الشعبية» التى يصف منسقها سامح الشافى حالة تكتم الزياة بأنها اعتراف بالذنب من حكومة كاميرون.

ويوظف الإخوان مجموعة من المحامين يعملون فى شركة «أى تى إن» التى تمثلهم هم وحزب الحرية والعدالة وقد بعثوا برسالة إلى كاميرون أيضا هددوا فيها بطلب محاكمة السيسى والقبض على رجاله الذين شاركوا فى فض اعتصام رابعة.. وأرسلت نسخة من الرسالة إلى زعيم المعارضة جيريمى كوريين وزعيم الحزب الوطنى الاسكتلندى نيكولا كوربين وتضمنت الرسالة دعوة إلى الحكومة بضمان أن يتحمل السيسى مسئوليته.

ومن أبرز المحامين الذين يخدمون الإخوان سير كين ماكدونالد المدعى العام الأسبق الذى عين فى مجلس اللوردات عام 2010 وأختير قاضيا فى المحكمة العليا فى نفس العام.

ولا شك أن ما دفعته الجماعة إلى ماكدونالد جعله فى حالة نشاط قانونى وإعلامى لا يتوقف وإن فشل فى كل قضاياه حتى الآن.. فقد رفض قضاة المحكمة الجنائية الدولية دعواه منذ الساعة الأولى لرفعها.. فتحريك الدعوى يشترط توافر تصديق مصر على اتفاقية إنشاء المحكمة.. ومصر وقعتها ولكن لم تصدق عليها.. وفى الوقت نفسه يمكن تحريك الدعوى بقرار من مجلس الأمن (كما فى حالة الرئيس السودانى عمر البشير) لكن استقبال الجمعية العامة للرئيس عبد الفتاح السيسى وقبول عضوية مصر فى مجلس الأمن سد الطريق أمام ماكدونالد.. بل وجعله يستشيط غضبا فى حوار أجراه مع الجزيرة من موقف الأمم المتحدة ويوجه إليها نقدا حادا.

وامتد النقد إلى المحكمة الجنائية الدولية التى وصفها بالانحياز السياسى بعد أن زار قضاتها سرا حسب ما أضاف.

على أن الغريب تصريحه بأنه قدم القضايا باسم محمد مرسى فكيف حصل على الأوراق القانونية المناسبة لذلك؟.

وحسب ما أعلن فإنه يتفاوض مع الشرطة البريطانية لاعتقال ومحاكمة شخصيات فى النظام المصرى القائم.. ولكن.. تلك المفاوضات لن تصل إلى شىء لاعتبارات متعددة ومتنوعة.

إن هناك جدلا لا يصل إلى البر حول اختصاص النظام القضائى البريطانى الذى يستوعب مجرمين مطلوبين فى بلادهم أكثر مما يسعى إلى ملاحقة غيرهم لم يمسوا الإمبراطورية العجوز بسوء. وتمنح الزيارات الرسمية ضيوف البلاد حصانة يستحيل خرقها ولو كان محكوما عليهم جنائيا.

والأهم.. مصلحة البلاد العليا.. بريطانيا أكبر مستثمر أجنبى فى مصر.. ويصل حجم هذه الاستثمارات إلى 20 مليار دولار.. وتمثلها شركات مؤثرة.. مثل شل وفودافون وبريتش بتروليم وغيرها. وفى مارس الماضى ترأس وزير الخارجية فيليب هاموند وفد بلاده إلى مؤتمر شرم الشيخ.. باحثا عن فرص لضخ المزيد من الاستثمارات البريطانية التى تمثل نصف الاستثمارات الأجنبية فى مصر.

وفى نفس الشهر قال السفير البريطانى فى القاهرة جون كاسن: «إن التزام بريطانيا لن يقتصر على أيام المؤتمر الثلاثة فى شرم الشيخ وإنما يمتد إلى حضور دائم فى قلب الاقتصاد المصري».

وتعتبر بريطانيا استضافة فرنسا والمانيا للرئيس السيسى اعترافا دوليا بنظامه لا يجوز لها الاعتراض عليه.

واستقبل الجيش البريطانى 31 ضابطا من الجيش المصرى للتدريب على تفكيك القنابل والتعامل السلمى مع المتفجرات.. دعما لحرب مصر ضد الإرهاب وقبلهم رئيس الأركان الفريق محمود حجازى.

وتوافق كاميرون والسيسى على ما سمى « «نهج الارتباط» بينهما لمواجهة تهديدات داعش وتمهيدا لتعاونهما أمر كاميرون بالتحقيق فى أنشطة الإخوان فى لندن.. ويتولى هذه المهمة السير جون جينكيز الذى عليه تقديم تقريره قبل نهاية العام لتحدد بريطانيا مدى خطورة الجماعة على أمنها. وفى مواجهة حملات الاحتجاج ضد الزيارة قالت المتحدثة باسم «داوننج ستريت» مقر الحكومة إن كاميرون سيناقش كل الملفات مع السيسى وسيحددان معا كيفية العمل معا فى المجالات المشتركة بما فيها مكافحة الإرهاب فى مصر ودول المنطقة الأخرى وتحقيق الاسقرار فى ليبيا.

واضافت: إنه «كلما كانت العلاقات قوية فإن سيكون من السهل مناقشة القضايا المختلف عليها والحكومة ملتزمة بنشر النتائج الرئيسية الخاصة التى توصل إليها التحقيق فى أنشطة الإخوان». وسبقت الزيارة توضيحات من شخصيات مصرية مؤثرة لحقيقة الأوضاع فى مصر منها جيهان السادات التى التقت عصر الثلاثاء الماضى مع قيادات برلمانية بدعوة من المجموعة البرلمانية المؤيدة لمصر هناك.

وحسب التصنيف الدقيق فإن نصف الحكومة معنا والنصف الآخر ضدنا وفى الوقت الذى يعادينا فيه الإعلام نجد البرلمان مناصرًا لنا.

ولعب الدور الرئيسى فى هذه الزيارة مصرى مقيم فى لندن هو سمير تكلا «عمل مستشارًا اقتصاديًا للسلطان قابوس لمدة 30 سنة» وتفرغ بعد وصول الإخوان إلى حكم مصر لمواجهتهم.. وبعد ثورة يونيو جاء بمجموعة من مجلس اللوردات لمقابلة السيسى وعدد من المسئولين مما فهموا معه حقيقة ما جرى فى 30 يونيو.

ويمكن القول إن سمير تكلا «ابن عم ليلى تكلا حمل هذه الزيارة على كتفيه وتولى ترتيب دعوة جيهان السادات إلى البرلمان متكفلاً بكل تبعاتها.

كما أنه حصل على إذن بمظاهرة أمام مقر الحكومة صباح وصول السيسى إليها وفى الوقت نفسه حصل الإخوان على مكان قريب للتظاهر بطلب من مها عزام.

وأهم ما فى هذه الزيارة أنها لا تكشف فقط عن موقف بريطانيا من النظام القائم فى مصر وإنما ستكشف عن موقف الولايات المتحدة منا أيضا.. فليس هناك جدال بأن لندن تمشى على سياسة واشنطن دون انحراف.. وربما تتوسط بينها وبين القاهرة لإذابة الجليد المتراكم بين أوباما والسيسى. وبتلك الزيارة تكتمل حلقة الاعتراف الدولى بثورة 30 يونيو وبالنظام السيسى الذى خرج من رحمها.

ولو كانت هناك مخاطر فيها فإن تطبيق المثل القائل «لا حلاوة بدون نار» يجب أن يفرض نفسه عليها.