نصار عبدالله يكتب: عن اللقاء الأول بالغيطانى

مقالات الرأي



امتدت صلتى بالغيطانى إلى ما يربو على نصف القرن من الزمان، إذ التقيت به لأول مرة فى أواخر عام ١٩٦٢ أو أوائل ١٩٦٣، وكانت الندوات الأدبية التى عمرت بها القاهرة فى تلك الحقبة هى مناسبة اللقاء.. أول ما خطر ببالى حين وطئت قدماى لأول مرة أرض العاصمة «القاهرة»، وأصبحت واحدا من سكانها هو أن أرى شخصيا أولئك العمالقة الذين كنت أقرأ لهم وأنبهر بهم: العقاد، طه حسين، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، يحيى حقى.. إلخ، وقد كان اللقاء ببعض هؤلاء سهلا وميسورا، إذ إن بعضهم كان يعقد جلسات أسبوعية فى منزله أو فى غير منزله، حيث تتاح فرصة الحضور لمن يشاء، وكان الشيخ أمين الخولى رحمه الله الذى التقيت بجمال الغيطانى فى جلسته واحدا من هؤلاء المشاهير.. كان أمين الخولى فى ذلك الوقت رئيسا لتحرير مجلة «الأدب» التى أنشأها والتى احتضنت عددا من الموهوبين الذين أصبحوا فيما بعد من العلامات البارزة مسيرة الأدب العربى، وكان أيضا قد اشتبك مع العقاد فى واحدة من تلك المعارك الفكرية حامية الوطيس التى خاضها العقاد فى سنواته الأخيرة والتى حمل فيها على معارضيه فى الرأى حملة شعواء، واصفا إياهم بأقسى العبارات والأوصاف، وبرغم أن كلام العقاد لم يكن يخلو من الحجة القوية المقنعة فى أحيان كثيرة، فقد أحسست أن كلام أمين الخولى أقوى حجة وأكثر إقناعا!، ومن ثم فقد سعيت إلى لقائه فى ندوته التى كانت تعلن عنها مجلة «الأدب» على صفحاتها، وقد كانت تعقد فى إحدى العمارات عتيقة الطراز الكائنة بشارع الجمهورية.. كان يتحلق فيها حوله عدد من تلامذته المعجبين بمنهجه العقلى المستنير والذين عرفوا فيما بجماعة الأمناء وهى تسمية تحتمل المعنيين: النسب إلى الشيخ أمين نفسه من ناحية، والتأكيد على أن الأمانة الفكرية هى فى مقدمة ما ينبغى أن يحرص عليه باحث أو مفكر من ناحية أخرى، «وهو ما كان يفتقده فى بعض مقالاته الأستاذ العقاد نفسه رغم مكانته الفكرية الكبيرة».. كان أمين الخولى عبقريا بغير شك، ويكفى أن أشير هنا إلى أنه قد تخرج من تلك المدرسة الفريدة التى أنشأها سعد باشا زغلول ناظر المعارف فى عام ١٩٠٧ بناء على توصية من مفتش القضاء الشرعى الشيخ محمد عبده، دعا فيها إلى ضرورة تخريج جيل من القضاة الشرعيين الملمّين بالعلوم العصرية المختلفة بدلا من خريجى الأزهر الذين لا يلمون بتلك العلوم! وهكذا أنشئت مدرسة القضاء الشرعى التى كان طلابها يدرسون الفيزياء والرياضيات المتقدمة جنبا إلى جنب مع العلوم الشرعية والقانون، وقد كان النظام فى تلك المدرسة صارما وقاسيا، فلم تعرف نظام الملحق أو النقل إلى الفرقة التالية بمواد تخلف، بل كان يفصل منها فورا كل من يرسب فى أى مادة أيا ما كانت!!.. وهكذا كان من الطبيعى أن المتخرج منها لابد أن يكون نابغا حتى ينجح فى كل ذلك!.. وقد كان أمين الخولى واحدا من هؤلاء النوابغ !!.. أعتذر عن هذا الاستطراد وأعود إلى موضوع حديثى وهو لقائى بجمال الغيطانى فى ندوة ذلك الشيخ الجليل والمستنير الذى بهرنى عندما استمعت إليه أكثر مما بهرنى العقاد الذى قدر لى أيضا أن أحضر صالونه الأدبى وأن أتحاور معه أكثر من مرة، أعود إلى حديثى لكى أستعيد ذكرى لقائى الأول بجمال حين دخل يوما إلى مقر الأمناء شاب أسمر نحيل، عندما رآه الشيخ أمين هبّ واقفا ورحب به ترحيبا شديدا، ومال الشاب على أذن الشيخ وقال كلاما لم أتبينه لكن الشيخ قال فى حنو: «حاضر سننشرها يا جمال!»، ثم التفت إلينا قائلا: جمال الغيطانى.. شاب موهوب.. أتنبأ له بأنه سوف يكون واحدا من أهم أدباء مصر فى السنوات القادمة.. كنت قد قرأت بالفعل لجمال الغيطانى قصة منشورة فى مجلة الأدب، أظن أن عنوانها كان «النمل» ــ حاولت أن أعثر عليها فى أية مجموعة من المجموعات القصصية التى أصدرها بعد ذلك لكنى لم أعثر على قصة بهذا العنوان ــ لا أدرى هل التبس على الأمر وخانتنى الذاكرة أم أنه هو نفسه قد قرر لسبب أو لآخر ألا ينشرها فى إحدى مجموعاته!! على أية حال فقد كانت القصة التى نشرها بالفعل فى الأدب، وكذلك القصة التى كان يعتزم نشرها والتى سألته عنها بعد تقديم الشيخ أمين، كانت هى بداية تعرفى على جمال، وكانت فى الوقت ذاته بداية لصلة من المودة التى دامت بعد ذلك أكثر من خمسين عاما!،.. حتى بعد أن تركت القاهرة وأقمت بحكم عملى فى سوهاج وهى المحافظة التى ولد فيها جمال نفسه، ظلت صلتى به قائمة عبر التليفون، حميمة ودافئة إلى أن رحل منذ أيام عن عالمنا فرحلت معه قطعة عزيزة من ذكريات الزمن الجميل.