محمد مسعود يكتب: جمال الغيطانى.. «فارس الأدب» و«أديب الجبهة»

مقالات الرأي



بطبيعة حال صاحبه المتمرد، قرر قلبه العصيان والتوقف إلى النهاية، ليعلن عن وفاة صاحبه، الأديب والمراسل الحربى، ومؤسس أخبار الأدب الكاتب الكبير جمال الغيطانى.. ليصبح خبر وفاته مجرد سطور فى مساحة صماء، تعجز كلماتها عن إعطائه حقه لما قدمه من أعمال وإسهامات.. وطنية وأدبية وصحفية.

رحيل جمال الغيطانى، سبب غصة فى حلوق محبيه ومريديه وقرائه وتلاميذه، فالغيطانى «قصة» لعبت بطولتها الموهبة وشاركتها البطولة.. الكفاح والعزيمة، ولعل دماء الصعيد السخنة التى جرت فى عروقه، جعلته شخصا يرفض الخنوع والتراجع والاستسلام، فكان أديبا وصحفيا بدرجة محارب، يبغى النصر، ويخشى عار الهزيمة وذلها، لذا تبدلت حياته من حال إلى حال.. إلى أن قضى الله أمرا، كان مفعولا.

1- نهاية السكير

أنهى جمال الغيطانى تعليمه فى مدرسة «الفنون والصنائع» بالعباسية، ليلتحق بعدها بالعمل فى وظيفة «رسام» بالمؤسسة المصرية للتعاون الإنتاجى، وكانت مهمته، رسم بعض الصور التى يتم استخدامها فيما بعد فى أعمال الغزل والنسيج، واستمرت رحلته بالمؤسسة من عام 1963إلى عام 1965، كان ينبض بداخله الكاتب وتتشكل شخصيته كأديب، لكنه لخلفيات سياسية تم اعتقاله فى عام 1966، ويطلق سراحه بعدها بعام واحدـ هو عام النكسة، ليعمل فور خروجه من المعتقل سكرتيرا للجمعية التعاونية المصرية لصناع وفنانى خان الخليلى إلى عام 1969.

فى مرحلة عمله قبل الصحافة نشر الغيطانى نحو خمسين قصة قصيرة، وبدأت رحلته بقصته الأولى «نهاية سكير» التى كتبها عام 1959، ولفت الأنظار بكتابه «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» الذى ضم خمسة قصص قصيرة، واعتبر النقاد أن الأدب بدأ مرحلة مختلفة للقصة القصيرة، بكتاب الغيطانى.

2- البحث عن الموت


وإذا كانت الصحافة هى مهنة البحث عن المتاعب، فقد دخلها جمال الغيطانى بمحض إرادته عندما التحق بالعمل فى جريدة أخبار اليوم عام 1968 وبالتحديد فى قسم التحقيقات، وكان هدفه الوحيد فى هذه المرحلة زيادة الدخل، فالأدب الذى خشى عليه من الصحافة لم يكن يدر له المال الكافى لحياة مستقرة، وبوجوده فى أخبار اليوم علم أن وفداً من الجريدة سيذهب فى زيارة إلى الجبهة.. ووقتها قرر الذهاب معهم، فبدلا من أن يبحث عن المتاعب الصحفية فى قلب القاهرة قرر البحث عن الموت فى رمال خط القنال ودروبه.

موسى صبرى لم يعترض، ومنح الصحفى الشاب الفرصة لزيارة الجبهة، وقال «ليه لأ أنت أديب وممكن تكتب كويس عن الوضع هناك».. وسافر وفد أخبار اليوم إلى بورسعيد عن طريق دمياط، ومن دمياط أخذوا طريقا محاذيا للبحر الأبيض المتوسط يصل بهم إلى منطقة «الجُيل» بقلب بورسعيد.

الحنين إلى جبهة القتال هو الذى دفع جمال الغيطانى للذهاب مع وفد أخبار اليوم، فهو أبدا لم ينقطع عنها، لدرجة أنه تطوع فى المقاومة الشعبية وسافر بالفعل إلى مدينة السويس للقيام بمهمات بسيطة، تنحصر فى مقابلة الجنود العائدين وإعطائهم المياه وشرائح البطيخ الباردة، وعندما طالبتهم القيادات بالعودة.. عاد على مضض، لذا.. كان متلهفا لزيارة القناة ومقابلة الجنود وأهالى السويس وبورسعيد من جديد.

3- تعلب.. قلب الأسد


قبل وفاة الغيطانى بنحو شهرين، وبالتحديد مع افتتاح قناة السويس الجديدة، أجريت معه حوارا عن عمله كمراسل حربى لجريدة أخبار اليوم، وتناولنا فيه ذكرياته عن زيارته الأولى التى وصفها وكأنها حدثت منذ أيام قليلة، كانت راسخة فى ذهنه، مجسدة فى خياله، فأثناء حرب الاستنزاف ــ والكلام هنا نصا للأديب الراحل ــ ذاع صيت القناص المصرى أحمد نوار، وهو نفسه الفنان التشكيلى المصرى، وكان نوار قد قنص نحو 30 إسرائيليا، فقرر الغيطانى أن يزوره، وعند خروجه ومعه المصور، طلعا على سلم بدائى، وفجأة وجد أمامه الرئيس جمال عبد الناصر، حتى أنه يتذكر هذه اللحظة إلى الآن ويقول: « كان مرتديا قميصا أبيض، وبنطلونا غير مفرود، وكنت أنا أرتدى سترة ضابط مظلات وبنطلونا أسود، سألنى ناصر: «بتعملوا إيه؟» فعرفته بنفسى وبزميلى فتركنا قائلاً «ربنا معاكم»، ودخل أحد الخنادق، وقتها قررت ألا أذهب إلى أحمد نوار، وبقيت لأعرف ماذا قال الرئيس لجنوده، وبعد مغادرته سألت الجنود ماذا قال لكم الرئيس، وهنا فوجئت وصدمت بأسئلة الرئيس الدقيقة التى كان يريد من خلالها معرفة أحوال الجنود بصورة كاملة وكانت الأسئلة من عينة «بيأكلوكم إيه؟ وبتناموا كام ساعة ؟ وبتستحموا كام مرة؟».

ولعل ما أثر فى ذاكرته إلى أبعد الحدود هو النقيب عبد العزيز تعلب قائد سرية صاعقة، والحكاية على لسان الغيطانى تبدأ بعودتهم من زيارة موقع رأس العش، فسار الغيطانى ومن معه، فى ضواحى بورسعيد، وكان الغروب قد بدأ، ونزلوا فى مواقع تحتلها قوات الصاعقة المصرية، وكانت لديها تعليمات « لا تبدأ بالضرب .. رد فقط.

وأصر تعلب أن نجلس معه ونشرب الشاى على خط القناة، وفوجئت ــ والكلام للغيطانى ــ بأنه لم ينزل إجازة منذ ستة أشهر، لا لشيء إلا لأنه رفض النزول وكان يرد دوما على من يطالبه بالنزول فى إجازة «طول ما هما هنا ــ يقصد الإسرائيليين ــ أنا مش نازل».

ولم يكن النقيب عبد العزيز تعلب يكتفى بالبقاء فى أرض المعركة فقط، بينما كان يوزع راتبه على الجنود، فى شكل مكافآت تشجيعية، فالمقاتل الذى ينجح فى ضرب دبابة يعطيه خمسة عشر جنيها، ومن يضرب بلدوزر عشرة جنيهات، والسيارة النقل 8 جنيهات وهكذا، يصرف راتبه على مكافآت الجنود، تأثر الغيطانى بشخصية النقيب تعلب، وعرف منه أنه كان يسكن بجواره فى مدينة نصر ــ آنذاك ــ وعندما ودعه وعاد من عنده كان الظلام قد حل

رأى الغيطانى أن «خيطاً من النور الأحمر» يظهر فى الطرف الآخر وهى طلقات مضيئة وفوجئ بعسكرى يجرى عليهم ويقول «ارقدوا على الأرض»، وعرفت أنه كان هناك ضرب بالهاون، والهاون يمكنه أن يضربك من خلف الحائط، ويضحك الغيطانى وهو يقول: كان مصطفى حسين رحمه الله منبطحا أمامى، ولما طال وقت الانبطاح قال: شكلنا هنبات منبطحين لحد الصبح، وكتب الغيطانى بعد عودته إلى بورسعيد، تحقيقا صحفيا ركز خلاله على النقيب عبدالعزيز تعلب وفريقه، وأرسله إلى موسى صبرى الذى قرأه بإعجاب، وأشار إليه بالصفحة الأولى بأخبار اليوم، ونشره على صفحة كاملة بعنوان «المقاتل المصرى كما رأيته على خط النار»، فأصبح بعدها مراسلا حربيا معتمدا لأخبار اليوم.

4- إعادة تمثيل حرب أكتوبر


أثناء عبور القوات المصرية لقناة السويس كان الغيطانى فى القاهرة، وسافر بعد العبور بأيام، وأكد لنا أنه لم يكن هناك صحفيون على الجبهة فى ذلك الوقت فسألته عن المشاهد المصورة من حرب أكتوبر، فقال لى إن تلك المشاهد أعيد تصويرها بعد الحرب، أى أن المادة الفيلمية المصورة لم تكن من الحرب نفسها بينما كانت إعادة تمثيل للحرب التى عرف بموعدها عندما كان فى نقابة الصحفيين وحكى لى الموقف قائلا: «كنا فى النقابة نناقش رفض قرار السادات بإعادتنا للعمل بعد فصلنا لتأييد مظاهرات الطلبة عام 1971 ودخل علينا حسن الشرقاوى الصحفى بالأهرام، وسيد الجبرتى بالأخبار مؤكدين أن الجيش المصرى عبر القناة، وكان معى رقماً مباشراً بالمجموعة 26 مخابرات حربية، واتصلت بالفعل بالعميد بدر حميد وقال لى لا يوجد ولا صحفى فى الجبهة، وفى الثالثة فجرا كنت فى مبنى الشئون المعنوية فى طريق العروبة وسافرت منه إلى القطاع الشمالى، وفى السابعة صباحا كنت فى الجبهة وشاهدت العلم المصرى مرفوعا، فالعلم فى الحرب له قدسية، ووجدت الأسماك بكميات كبيرة طافية على سطح القناة ووصلنا إلى الضفة الثانية وكان أول ما يسألنا به الجنود:» الناس بتقول علينا إيه».. والحقيقة أن الجيش كان يغسل عار الهزيمة .. وذلها».

5- العودة إلى قسم التحقيقات.. وأخبار الأدب

بنهاية الحرب، وتحديدا فى عام 1974 عاد جمال الغيطانى للعمل فى قسم التحقيقات، ومنه للقسم الأدبى، الذى ترأسه فى عام 1985 ليؤسس بعدها جريدة أخبار الأدب عام 1993.

الغيطانى حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الرواية عام 1980، وجائزة سلطان بن على العويس عام 1997 ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى فى نفس العام، ووسام الاستحقاق الفرنسى من طبقة فارس عام 1987 وجائزة لورباتليون لأفضل عمل أدبى مترجم للفرنسية عن روايته «التجليات» مع المترجم خالد عثمان فى 2005، قبل أن يحصل على جائزة الدولة التقديرية عام 2007.