منال لاشين تكتب: هل يكرر السيسى أخطاء عبدالناصر؟
قد يبدو العنوان أو بالأحرى السؤال صادما للبعض، وقد يبدو للكثيرين غير ملائم خاصة مع إحياء ذكرى رحيل الزعيم جمال عبدالناصر. لكن طرح هذا السؤال ومحاولة الإجابة عنه هو الأكثر إنصافًا للزعيم عبدالناصر، فعلى الرغم من الحب والشعبية الكاسحة للزعيم فإن أعداء عبدالناصر فى النخبة أهالوا التراب على إنجازات عصره، وحولوا الكثير من الإنجازات إلى أخطاء بل خطايا، والإنصاف يتطلب نقدًا موضوعيًا للأخطاء الحقيقية فى عصر الزعيم عبدالناصر وسياساته، نقدًا بعيدًا عن هوى المستفيدين من عصر الانفتاح السداح المداح. وهذه الفئة أصابها الذعر والهستيريا لمجرد المقارنة بين عبدالناصر والسيسى.
و يتصنعون الدهشة والاستنكار لأى مقارنة بين الزعيمين. وذلك على الرغم من أن إجماعًا شعبيًا ودوليًا بل ومخابراتيًا يرصد التشابه بينهما.
ما إن أعلن السيسى انحيازه للشعب وثورته فى 30 يونيو حتى استدعى المصريون صورة الزعيم جمال عبدالناصر فى كل ميادين الثورة، لأن انحياز السيسى ضد رغبات أمريكا أيقظ الحنين للبطل والزعيم الذى يرفع استقرار مصر ويعيد مكانتها الدولية. وينهى تبعيتها لأمريكا. فقد وجد المصريون فى السيسى نموذج البطل القومى الذى جسده بحق الزعيم جمال عبدالناصر.
ولكن بعيدًا عن الحنين الشعبى فإن بعض أجهزة المخابرات العالمية قد التقطت برادار مختلف التشابه أو العروة بين عبدالناصر والسيسى كان لدى هذه الأجهزة ثمة تخوفات من عودة شبح عبدالناصر. شبح الاستقلال والجيش المصرى القوى وقيادة الوطن العربى ودول العالم الثالث تحت شعار «عدم الانحياز».
وفى وقت مبكر أجرت مؤسسة جلوبال العالمية لاستطلاعات الرأى استطلاعا حول التشابه بين عبدالناصر والسيسى فى بعض الدول العربية وفى فلسطين المحتلة، وجاءت نتيجة الاستطلاع لصالح تأكيد التشابه، ففى غزة المحتلة ورغم سيطرة حماس على القطاع رأى أهل غزة فى السيسى ناصر جديدًا أو عملاقًا قوميًا آخر يأتى بعد أن ضن الزمان بالرجال والرؤساء من أمثال عبد الناصر.
بل وصل الأمر بأرملة الرئيس الراحل ياسر عرفات أن تتوجه إلى السيسى، وتطالبه بحق زوجها فى قضية مقتله بالسم فى باريس.
لكن السيسى نفسه دخل فى هذه المساحة عندما قال إن عبدالناصر كان محظوظا بإعلامه. وهى مقارنة أزعجت البعض. فالإعلام الناصرى لم يكن أحد إنجازات الزعيم.
ومنذ أن أصبح السيسى رئيسا لم تتوقف المقارنة. لكنها كانت فى الغالب مقارنة فى الإنجازات. تنوع تسليح الجيش المصرى والعودة للسلاح الروسى، ثم صفقة الطائرات رافال الفرنسية، وذلك فى صفقة تعيد للأذهان ضربة المعلم فى العهد الناصرى. وهى صفقة السلاح التشيكى الذى ضرب بها عبدالناصر احتكار الغرب للتسليح المصرى.
مرة أخرى قناة السويس الجديدة وإنجازها فى زمن قياسى وفى وقت أزمة، لتعيد للأذهان والقلوب المشروع الناصرى القومى السد العالى. وضربة تأميم القناة ومعجزة إدارتها بالمصريين.
مرة ثالثة يفتح باب المقارنة بين عبدالناصر والسيسى. وذلك مع فتح الأبواب والنوافذ لعلاقات مصر مع كل القوى والدول فى العالم والوقوف مع الجميع على مسافة واحدة وبمنطق الأخلاق والمصالح المصرية. واستعادة العلاقات مع إفريقيا والدول العربية. ما يستدعى للمشهد الحالى دوائر عبدالناصر الشهيرة العربية والإفريقية والإسلامية وحركة عدم الانحياز.
ولكن فى بعض الأحيان والملفات كانت المقارنة تبدو عبئًا على الرئيس السيسى. خاصة فى قضية العدالة الاجتماعية. والحقيقة أن مقارنة أى رئيس بعبدالناصر فى هذا المجال هى تحدٍ كبير، خاصة مع اختلاف الظرف التاريخى. فالسيسى طرح مشروعات للفقراء مثل «تكافل وكرامة» وأعفى أفقر الفقراء من زيادة الكهرباء. وحدث تحسن فى بعض الخدمات التى يحصل عليها الفقراء مثل الخبر المدعم والتموين.
ولكن العدالة الاجتماعية عند عبدالناصر أعمق بكثير من عدة إجراءات. فالزعيم عبدالناصر مكن الفقراء والطبقة المتوسطة من الحصول على حقوقهم. وذلك فى أكبر وأعظم عملية إعادة توزيع للثروة لصالح الفقراء والطبقة المتوسطة. ولاشك أن التأميم أتاح لعبدالناصر فرصة تحقيق انحيازاته الحادة والحاسمة للفقراء والطبقة المتوسطة. وذلك بدءًا من الإصلاح الزراعى مرورًا بالتمصير والتأميم. لكن بالنسبة لى على الأقل، فإن الرئيس السيسى لم يستخدم حتى الآن الأدوات المتاحة لإعادة توزيع الثروة. فالضريبة هى أحد أهم أدوات إعادة توزيع الثروة فى النظام الرأسمالى. لكن الحكومة قامت بتخفيض سعر الضريبة على الشريحة الأعلى وهو شريحة الأثرياء وكبار رجال الأعمال، كما أن سياسات جذب الاستثمار لاتزال تعمل بآليات عصر مبارك. وهو الأمر الذى يكرس الطبقات الاجتماعية فى مصر، ولا يساند هدف الحراك الاجتماعى.
كل هذه المقارنات تقع بالطبع فى دائرة إنجازات عبدالناصر، فماذا عن أخطاء عبدالناصر وهل يكررها السيسى ؟
بدء الحديث أوالمقارنة بين الاثنين فى مجال الأخطاء بمناسبة حرب اليمن. واللعب الإيرانى هناك وما تلاه من تكوين تحالف عربى لمواجهة الحوثيين. وفجأة ظهرت عقدة اليمن. وتعد مشاركة مصر الناصرية فى الصراع اليمنى فى الستينيات أكبر أخطاء عبدالناصر. وقد سبب التدخل البرى أو بالأحرى الخسائر البشرية فى اليمن عقدة لدى المصريين. وكان السيسى واضحا ولم يكرر خطأ عبدالناصر تحت شعار «لا للتدخل البرى». وربما تجاهل البعض عن سوء نية أن ما يحدث فى اليمن ينصف عبدالناصر. فأى نظام حكيم فى مصر لا يمكن أن يترك باب المندب تحت سيطرة نظام معادٍ. لكن يظل التورط فى حرب اليمن خطأ.
وحين تبرز إسرائيل فى الصورة يبدأ البعض فى سرد خطأ آخر. وهو خطأ خاص بعلاقة عبدالناصر بإسرائيل أو بالأحرى حدة عداوته لها. ولا يزال البعض يردد تصريحًا لعبدالناصر «هنرمى إسرائيل فى البحر». وفى مجال المقارنة يحلو للبعض أن يؤكد أن السيسى لا يكرر خطأ عبدالناصر. ولا شك أن السيسى يتمسك بإقامة الدولة الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين، ولكنه يبدو بالفعل أكثر حذرا فى تصريحاته تجاه إسرائيل. خاصة مع المقارنة باللهجة أو بالأحرى الموقف الحاسم والحاد لعبدالناصر تجاه إسرائيل.
ومن يتابع خطوات وتصريحات ومواقف السيسى سيدرك أن الرئيس يبدى حذرا من جر مصر إلى معارك دون الاستعداد لها. أو قبل أن تستكمل مصر بناء عناصر قوتها ولياقتها على جميع المستويات وفى كل الملفات. وهو حذر قد يرجعه البعض فى مجال المقارنة بعبدالناصر إلى عقدة أخرى. وهذه العقدة هى نجاح الغرب فى توريط عبدالناصر فى حرب 67. وذلك من خلال الاستفزازات. ولاشك أن عبدالناصر مسئول عن هزيمة 67 وهى من أكبر أخطاء نظامه. وقد اعترف الرجل بهذه المسئولية فى خطاب التنحى الشهير. لكن الشعب رفض التنحى وأصر أن يستكمل مسيرته مع زعيم أحبه ويثق به على الرغم من الأخطاء. وحتى لا يكرر السيسى نفس الخطأ فهو يقيس خطواته بدقة وحذر. وله عباره تشى بهذا المعنى. فقد قال السيسى مرة فى مجال الرد على التجاوزات القطرية أو التركية جملة موحية. قال السيسى الواحد وهو صغير لما حد يضربه يقول لما أكبر أضربه. وهذه الإشارة تكشف وعى السيسى بأهمية اختيار اللحظة المناسبة. وألا يجر إلى حروب غير مستعد لها. ومرة أخرى يكشف السيسى عن هذا الوعى فى جملة شهيرة جدا له. وهى جمله «مصر أم الدنيا وهتبقى قد الدنيا ومش هتنسى اللى وقف معاها ولا اللى وقف ضدها».
ولاشك أن السيسى الذى عاين ألم هزيمة 67، واختار طريق المقاومة بالانضمام للجيش من المرحلة الثانوية يعى مخاطر الانسياق وراء الاستفزازات. خاصة أن كلاً من عصرى عبدالناصر والسيسى يشترك فى مواجهة المؤامرات التى تحاك ضد مصر. والسيسى يعى جيدا للمتربصين بمصر فى الداخل والخارج. وربما كان يجب على الزعيم عبدالناصر أن يكون أكثر حذرا فى التعامل مع المؤامرات على مصر. وعليه شخصيا كرمز للاستقلال الوطنى والعربى.
ولكن بالنسبة لى فإن أكبر أخطاء عبدالناصر يبتعد عن حرب اليمن أو حتى هزيمة 67. الخطأ الأكبر الذى طرحت من أجله سؤال «هل يكرر السيسى أخطاء عبدالناصر» خطأ من نوع آخر. وليس خطأ عسكريًا، بل خطأ سياسى وهو خطأ يتعلق بالحريات فى عهد عبدالناصر. وبعيدًا عن مجال المقارنة بين عبدالناصر والسيسى فإن موقف عبدالناصر من الحريات يبدو لغزًا محيرًا. فلم يحب الشعب المصرى أو يثق فى زعيم مثل جمال عبدالناصر. وشعبية عبدالناصر ثابتة فى حياته ووفاته، وجنازته أكبر دليل على حب الناس له. وإنجازات عبدالناصر للفقراء أو فى بناء مصر الحديثة ليست مجال شك أو مقارنة. ولذلك يدهشنى أن يتخذ رجل بنفس هذه الإنجازات والشعبية موقفا حادًا من الحريات السياسية. فقد كان لثورة 23 يوليو أهداف ستة وقد نجح عبدالناصر فى تحقيق خمسة منها. ولكن ظل الهدف السادس مجمدًا. وهو هدف «إقامة حياة ديمقراطية سليمة». فمن البديهى أن تنهى ثورة 23 يوليو النظام السياسى والحزبى الفاسد أيام الملك. لكن عبدالناصر فشل فى ايجاد بديل سياسى للأحزاب. فلم يكن الاتحاد الاشتراكى أو القومى بديلا أو نظامًا يسمح بالمنافسة السياسية. لو أعاد عبدالناصر كل الأحزاب بما فيها الوفد وأسس حزبه لفاز حزبه فى أى انتخابات نزيهة. ولكن عبدالناصر لم يتحمس للنظام الحزبى. كما أن الحريات الحقوقية وحرية الصحافة والإعلام والمنظمات لم تكن فى أفضل حالاتها. ولهذا لم أتحمس لمقولة السيسى «عبدالناصر محظوظ بإعلامه». فمن الموضوعية القول إن مجال الحريات لم يكن فى ميزان حسنات أو إنجازات الزعيم جمال عبدالناصر.
وأدرك بالطبع أن المؤامرات الخارجية بررت لعبدالناصر عدم المضى فى مجال الحريات، وزين له بعض المقربين والمستشارين أن الحرية هى حرية رغيف العيش. كما أن إنجازات عبدالناصر الاجتماعية والاقتصادية جعلت الحريات الإعلامية والسياسة أمرًا غير ملحٍ. لأن عبدالناصر كان يفكر للفقراء والطبقة المتوسطة ويحقق لها إنجازات على مدار العام. وكان عبدالناصر يراقب الأسعار ويرفض رفع أسعار السلع الأساسية. وكان يسابق الزمن لإقامة نهضة صناعية. ولذلك بدا للبعض أن معارضة بعض سياساته ضرب من «البطر» بالنعمة. كما أن إنجازاته جعلت الكثير لا يشعرون بخطورة غياب الحريات. وعززت المؤامرات الخارجية على مصر عبدالناصر هذا الاتجاه.
وتبدو المؤامرة على مصر هى العامل المشترك فى المقارنة بين السيسى وعبدالناصر فى مجال الأخطاء. مرة أخرى أدرك أن المؤامرة على مصر السيسى حقيقة وخطيرة، وإن الإرهاب يمثل خطرًا مضاعفا على مصر الآن. وأدرك حجم التحديات الاقتصادية والاجتماعية التى يواجهها السيسى. لكننى أرجو إلا يكرر خطأ الزعيم جمال عبدالناصر. وأتمنى أن يدرك الرئيس السيسى أن فاتورة وجود الحريات أقل كثيرا من مخاطر غيابها. وأن يتأمل الرئيس السيسى توابع تعامل عبدالناصر مع ملف الحريات. وما حدث بعد رحيل عبدالناصر.
فبعد أن تولى السادات السلطة وتوالت انقلاباته على كل سياسات عبدالناصر. نقل أوراق اللعبة فى أيدى أمريكا. والانقلاب على الاشتراكية التى استفاد منها المصريون، وتشويه القطاع العام وبعد ذلك بيعه فى عهد مبارك. والسلام مع إسرائيل. كل هذه الانقلابات لم يواجهها المصريون الذين استفادوا من سياسات عبدالناصر. ملايين المصريين استفادوا من القطاع العام ولم يستطيعوا الاعتراض على بيعه ووقف نهب مصر. الملايين الذين أيدوا عبدالناصر فى موقفه وعدائه ضد إسرائيل لم يهبوا فى ثورة أو انتفاضة لوقف اتفاقية السلام.
وبدا كأن إنجازات عبدالناصر كانت موجهة لشعب آخر، وتطلب الأمر سنوات ليهب المصريون مطالبين مرة أخرى بالكرامة والعدالة الاجتماعية. فغياب الحريات والحياة السياسية الحقيقية كان وباء على التجربة الناصرية وإنجازاتها. لأن غياب العمل السياسى الحقيقى من ناحية والحريات الحقوقية من ناحية أخرى أفقد المصريين القدرة على تنظيم صفوفهم. وأفقدهم القدرة على الدفاع عن حقوقهم، وبالأحرى أفقدهم القدرة والأدوات للحفاظ على إنجازات عبدالناصر، لم يحب المصريون رئيسا مثلما أحبوا عبدالناصر، وبالمثل أحب المصريون السيسى. ولكن الحب وحده لا يكفى للحفاظ على الإنجازات وحمايتها من الأعداء. وغياب الحريات قد يكون مفيدا أو يسرع من إجراءات التنمية على المدى القصير. ولكن أثره وتوابع خطيرة على المدى البعيد. وتجاوزات المناخ الحر مهما كانت أقل ضررًا من تجاهل الأصوات المتنوعة والاختلافات تحت شعار «الاصطفاف الوطنى» أو شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» لأن تجربة عبدالناصر تثبت لكل حكيم أن صوت الحرية والتنوع والمعارضة يجب أن يظل مسموعا مهما كثرت المعارك. ومهما تكاثرت المؤامرات.
غياب الحريات تحت أى ظروف ولو بدت موضوعية هى الخطأ الذى وقع فيه الزعيم عبدالناصر وأتمنى ألا يكرر الرئيس السيسى هذا الخطأ. أتمنى ألا يستمع إلى مقولات من نوع «الوقت غير ملائم» أو «الشعب غير مؤهل» أو «الشباب مضحوك عليه ويجب أن يدرب أولا». كل هذه المقولات ترددت أيام التجربة الناصرية لتبرير عدم المضى قدمًا فى تحقيق النظام الديمقراطى. وقد أدرك عبدالناصر متأخرًا جدًا أهمية الحرية والديمقراطية. وأعاد عبدالناصر النظر فى ملف الحريات. وبدت ورقة أوبيان مارس إرهاصة لهذا التغيير. ولو كان عبدالناصر بدأ فى تطبيق النظام الديمقراطى بعد معركة تأميم القناة لخلق جيلاً من الأنصار قادراً على الدفاع عن حقوقه، وعن إنجازات الثورة وعبدالناصر.
ولذلك أتمنى من الرئيس السيسى لو طرح أحدهم السؤال أمامه. سؤال هل يكرر السيسى أخطاء عبدالناصر؟ فأرجو ألا تكون الإجابة هى الديموقراطية أو بالأحرى غيابها.