يوم عرفة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد فإن عشر ذي الحجة هي العشر الأُوَل ,والثلث الأَوّل من الشهر الثاني عشر .
و الشهر الثاني عشر هو شهر ذي الحجة , سمي بذلك لأن الحج يفعل فيه, وذو الحجة ينطق بكسر الحاء وفتحها , ومعلوم أن الأشهر الحرم أربعة , وشهر ذي الحجة أحدها.
وقد خصت هذه العشر بمزيد عناية وتفضيل لأنها أفضل أيام الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث جابر «أفضل أيام الدنيا أيام العشر»[1] .
وقال صلى الله عليه وسلم «إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر، ثم يوم القر» رواه أبو داود [2]عن عبدالله بن قرط رضي الله عنه .
وقد أقسم ذو العزة والجلال بهذه الأيام العشر قائلا سبحانه وتعالى :
" والفجر وليال عشر" .
قال الطبري رحمه الله " والصواب من القول في ذلك عندنا: أنها عشر الأضحى، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه "[3] .
وقال ابن كثير رحمه الله " والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة"[4] .
وروى البخاري عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه؟» قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء»[5] وعند أبي داود وغيره بلفظ «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام»[6] .
وكان سعيد بن جبير رحمه الله وهو راوي هذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه "إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادا شديدا حتى ما يكاد يقدر عليه " كما عند الدارمي[7] .
قال ابن حجر رحمه الله "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ولا يتأتى ذلك في غيره"[8]
وقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر،فأكثروا فيهن من التهليل، والتكبير، والتحميد "[9] .
- سئل ابن تيمية رحمه الله عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان. أيهما أفضل؟
فأجاب:
"أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة"[10]
وغير غير ذلك في هذه المسألة .
- قال قال أبو داود رحمه الله في السنن " باب في صوم العشر " ثم أورد حديثا وقد صححه الألباني رحمه الله عن بعض، أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، أول اثنين من الشهر والخميس»[11] ورواه النسائي رحمه الله وأشار إلى الاختلاف فيه . وقد تكون الراوية هي حفصة رضي الله عنها كما رواه النسائي عنها أنها قالت: " أربع لم يكن يدعهن النبي صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة " [12]
وفي صحيح رحمه الله مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط»[13] وفي رواية «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر» .
وعلى كل حال فالأمر يسير , وذلك أن الصيام داخل في العمل الصالح كما تقدم . وقولهم صوم العشر وصيام العشر مع أن اليوم العاشر هو يوم عيد وصيامه محرم وباطل, ولكن هو من باب التغليب ومثله قول الفقهاء عن الوضوء هو غسل الأعضاء الأربعة وغير ذلك من الأمثلة.
التكبير :
قال ابن قدامة رحمه الله " قال القاضي: التكبير في الأضحى مطلق ومقيد؛ فالمقيد عقيب الصلوات. والمطلق في كل حال في الأسواق، وفي كل زمان. وأما الفطر فمسنونه مطلق غير مقيد، على ظاهر كلام أحمد "[14] .
قال ابن عثيمين رحمه الله "الفرق بين المطلق والمقيد أن المطلق في كل وقت، والمقيد خلف الصلوات الخمس في عيد الضحى فقط. ويبدأ المطلق في عيد الأضحى من دخول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق وهي الأيام الثلاثة بعد العيد. وفي عيد الفطر من دخول شهر شوال إلى صلاة العيد. ويبدأ المقيد على ما قاله العلماء من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق "[15] .
قال ابن باز رحمه الله "وبهذا تعلم أن التكبير المطلق والمقيد يجتمعان في أصح أقوال العلماء في خمسة أيام، وهي: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق الثلاثة. وأما اليوم الثامن وما قبله إلى أول الشهر فالتكبير فيه مطلق لا مقيد"[16] .
قال ابن جبرين رحمه الله " والتكبير المقيد يبدأ من فجر يوم عرفة لغير الحاج , أما بالنسبة للحاج فيبدأ الكبير من ظهر يوم النحر "[17] .
يوم عرفة:
و هو اليوم التاسع من ذي الحجة .
كما أن عرفات : بقعة مخصوصة وموقف معروف .
وقد سميت عرفات بذلك لأن آدم وحواء - عليهما السلام - تعارفا بها.وقال آخرون. بل سميت بذلك لأن جبريل - عليه السلام - لما علم إبراهيم - عليه السلام - مناسك الحج قال له: أعرفت؟ وقال قوم: بل سميت بذلك لأنه مكان مقدس معظم، كأنه قد عرف، كما ذكرنا في قوله تعالى: {ويدخلهم الجنة عرفها لهم} . قال في تاج العروس "كأنها عرفت أي طيبت. وقيل: لأن الناس يتعارفون بها." . قال الراغب في المفردات "وقيل: بل لتعرف العباد إلى الله تعالى بالعبادات والأدعية." [18].
المسألة الأولى في فضل يوم عرفة :
قال صلى الله عليه وسلم «صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده» رواه مسلم[19] عن أبي قتادة رضي الله عنه .
وقال صلى الله عليه وسلم «يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب» رواه أبو داود[20] عن عقبة بن عامر رضي الله عنه .
وقال صلى الله عليه وسلم «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ » رواه مسلم[21] عن عائشة رضي الله عنها .
المسألة الثانية في استحباب صومه وفضل ذلك :
قال صلى الله عليه وسلم «صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده» رواه مسلم[22] عن أبي قتادة رضي الله عنه .
وهذا الحديث وإن كان الرواي عن أبي قتادة هو عبدالله بن معبد الزماني وقد قال فيه البخاري رحمه الله في التاريخ الكبير " ولا نعرف سماعه من أبي قتادة" إلا أن البخاري نفسه قد بوب في الصحيح قائلا " باب صوم يوم عرفة " ثم ذكر تحته حديث أم الفضل رضي الله عنها ولفظه " أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، «فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره، فشربه»[23] فدل هذا على أن صيام يوم عرفة معروف معهود وأما صيام يوم عرفة بعرفة بالنسبة للحاج ففيه حديث يروى وهو في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما وقد بوب الترمذي -رحمه الله- عليه بالكراهة وأكثر أهل العلم يستحبون الإفطار ليتقوى على الدعاء .
المسألة الثالثة :
قال ابن القيم رحمه الله :
" إن قيل لم كان عاشوراء يكفر سنة ويوم عرفة يكفر سنتين؟
قيل فيه وجهان:
أحدهما: أن يوم عرفة في شهر حرام وقبله شهر حرام وبعده شهر حرام بخلاف عاشوراء.
الثاني: أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا بخلاف عاشوراء فضوعف ببركات المصطفى صلى الله عليه وسلم والله أعلم"[24] .
المسألة الرابعة :
قال الإمام النووي رحمه الله :
" وقد يقال إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلاة وإذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجمعات ورمضان وكذلك صوم يوم عرفة كفارة سنتين ويوم عاشوراء كفارة سنة وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ؟
والجواب :
ما أجابه العلماء أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات ورفعت به درجات وإن صادفت كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر والله أعلم"[25] .
المسألة الخامسة :
قال ابن عثيمين رحمه الله "فمن صام يوم عرفة، أو يوم عاشوراء وعليه قضاء من رمضان فصيامه صحيح" [26].
المسألة السادسة :
إن وافق صيام يوم عرفة يوم الجمعة فلا بأس بذلك , ولا يعد هذا داخلا في النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام , قال الإمام أحمد رحمه الله " إنما كره أن يتعمد الجمعة" كما في المغني[27] ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام" .
المسألة السابعة في التعريف وحكمه:
التعريف "هو اجتماع غير الحاج في المساجد عشية يوم عرفة، في غير عرفة، يفعلون ما يفعله الحاج يوم عرفة من الدعاء والثناء
وأول من جمع الناس يوم عرفة في المساجد هو ابن عباس - رضي الله عنهما -، وذلك في مسجد البصرة .
وقيل إن أول من عرف بالكوفة مصعب بن الزبير , والتعريف نوعان:
الأول: اتفق العلماء على كراهته، وكونه بدعة وأمراً باطلاً، وهو الاجتماع في يوم عرفة عند القبور، أو تخصيص بقعة بعينها للتعريف فيها كالمسجد الأقصى، وتشبيه هذه الأماكن بعرفات .
الثاني: ما اختلف العلماء فيه، وهو قصد الرجل مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر. فقال بعضهم: محدث وبدعة. وقال بعضهم: لا بأس به"[28] أ.هـ مختصرا .
ختاما :
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئا» وفي رواية " وأظفاره" [29].
قال ابن عثيمين رحمه الله " والحكمة من ذلك أن الله سبحانه وتعالى برحمته لما خص الحجاج بالهدي، وجعل لنسك الحج محرمات ومحظورات، وهذه المحظورات إذا تركها الإنسان لله أثيب عليها، والذين لم يحرموا بحج ولا عمرة شرع لهم أن يضحوا في مقابل الهدي، وشرع لهم أن يتجنبوا الأخذ من الشعور والأظفار والبشرة لأن المحرم لا يأخذ من شعره شيئا، يعني لا يترفه، فهؤلاء ـ أيضا ـ مثله، وهذا من عدل الله ـ عز وجل ـ وحكمته، كما أن المؤذن يثاب على الأذان، وغير المؤذن يثاب على المتابعة، فشرع له أن يتابع "[30]
وأما النهي فإن الجمهور يحملونه على عدم وجوب الإمساك بخلاف الحنابلة فإنهم يحملونه على وجوب الإمساك .
ولا يمسك المضحي إلا عن ثلاثة أشياء فقط :
الأظفار والأشعار والأبشار , وكون الحكمة ما تقدم لا يعني أن يجتنب كل ما يجتنبه المحرم فلا يجتنب الطيب والجماع وغيره مما يجتنبه المحرم وهذا خطأ شائع.
- إن وافق يوم الجمعة يوم العيد فمن شهد أحدهما سقط عنه الآخر , قال ابن تيمية " والقول الثالث: وهو الصحيح أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها ومن لم يشهد العيد. وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: كعمر وعثمان وابن مسعود وابن عباس وابن الزبير وغيرهم. ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف"[31] .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين