عادل حمودة يكتب: انقلاب سياسى وعسكرى ونووى فى الشرق الأوسط
حلفاء أمريكا فى موسكو
■ مصر والإمارات والأردن تلتقى فى موسكو فى مشهد لم يتخيله أشد المنجمين السياسيين خيالا
■ زيارة السيسى تحسم التفاهمات المعلقة فى مفاعلات الضبعة ومنطقة عتاقة الصناعية وطائرات ميج 29 المقاتلة
■ تعاون استخباراتى للحصول على جهاز الستريليتس الاستخباراتى لتتبع الإرهابيين بالقمر الصناعى
■ 24 شحنة غاز طبيعى من شركة روسنفت على مدار عامين تبدأ فى الربع الأخير من العام الحالى
لم تعد كلمة «روسيا» كلمة ملحدة.. تنقض الوضوء.. وتبطل الصلاة.. وتحض على المعصية.. وتحتاج فدية طعام مسكين للتطهر منها.
لم يعد السفر إلى موسكو مثل الخمر والميسر رجساً من عمل الشيطان علينا اجتنابه.
لم يعد السلاح الروسى سلاحا كافرا.. تسبب بخلوه من أكسير الإيمان فى هزيمة يونيو.. فقد جاء إلينا أيضا بنصر أكتوبر.
لقد سقطت كل الفتاوى الحمراء التى صيغت فى وكالات المخابرات الأمريكية خلال سنوات الحرب الباردة بحروف إسلامية لضرب الشيوعية.. وفرضتها على مشايخنا.. ومساجدنا.. ومنابرنا.. فتحت العمائم عملاء أحيانا.
فى ضاحية «جوكوفسكى» القريبة من موسكو افتتح يوم الثلاثاء 25 أغسطس الجارى معرض ماكس للطيران عارضا أجرأ الأسلحة الروسية وأكثرها تطورا وتميزا.. فى نفس اليوم بدأ رئيس مصر زيارته الثالثة لروسيا.. ولنفس المعرض وجهت الدعوة للرئيس السيسى وملك الأردن وولى عهد أبو ظبى لقص شريط افتتاحه المعرض.. فى سابقة لم يتخيلها أكثر المنجمين السياسيين خيالا.. أن يتجه العرب المحافظون شرقا بعد أن فقدت بوصلة السير غربا، ووجهت دعوة أخرى لملك السعودية الذى سيزور موسكو فى الخريف القادم.
إن الحكام العرب الأربعة يمثلون دولا كانت الأكثر دورانا فى الفلك الأمريكى.. لكن.. العم «سام» أو العم «أوباما» نجح بسياساته الانقلابية الصادمة فى المنطقة أن يجبر أقرب الحلفاء إلى بلاده على طلب الخلع السياسى قبل الطلاق العسكرى.
إن واشنطن هى التى تغيرت وليست القاهرة أو الرياض أو عمان.. الهجر بدأ من البيت الأبيض.. وهوى العشق الذى لا يملك أحد سيطرة عليه اتجه إلى طهران.. لكن.. زمن الهوى من طرف واحد انقرض.. وإستراتيجية «الحب من غير أمل أسمى معانى الغرام» فقدت صلاحيتها.
واجهت الولايات المتحدة ثورة يونيو بخبراتها العريقة فى إذلال الشعوب.. وفضلت أقلية إخوانية على أغلبية مصرية.. جمدت صفقات السلاح المتفق عليها.. وحرمت الجيش من معدات حيوية احتاجها فى حربه ضد الإرهاب.
لم يكن مقبولا أن تتنازل القوات المسلحة عن إرادتها لغيرها.. خاصة أن الأسلحة الأمريكية المرسلة إليها محكومة بقاعدة دفاعية.. ليست هجومية.. ليست متطورة.. يمكن التحكم فيها عن بعد.. ويعرف عنها الأعداء قبل الأصدقاء نقاط ضعفها قبل مصادر نيرانها.
ويصعب فى ظل التعهد الأمريكى المزمن بحماية إسرائيل أن يحدث توازن عسكرى معها إذا كان مصدر السلاح واحداً.. لذلك.. كان لابد من تنوع مصادر السلاح بتغيير الدول المنتجة.. لتحقيق سرية المعدة.. والحصول على الأكثر تطورا منها.. وخلق التعادل المفقود فى ميزان القوة.
اتجهت مصر إلى روسيا بعد فرنسا ولحقت بها السعودية وبدأ الحديث عن عقود تصل إلى 14 مليار دولار لشراء طائرات متطورة.. وبناء محطات نووية ضرورية.. والتعاون فى أبحاث فضاء مستقبلية.. والحصول على أجهزة تتبع استخباراتية تحسب إحداثيات العدو عبر الأقمار الصناعية.
إن ظهور رئيس مصر فى الكرملين بعد طول غياب من العلامات الصغرى للساعة الأمريكية بينما تصبح هذه العلامات كبرى بل عظمى بظهور ملكى السعودية والأردن هناك.. إن التاريخ القديم للعلاقات الروسية مع مصر يخفف من الصدمة.. لكن.. الحساسية الشهيرة التى واجهت بها السعودية روسيا من قبل يجعل المشهد الجديد معجزة سياسية خرافية.
لقد نجحت السياسة «الأوبامية» فى المنطقة أن تحول أشد الأصدقاء إخلاصا إلى أكثرهم عداء.. وفرضت على الذين يبررون ما تفعل أن ينتقدوا ويعترضوا ويرفضوا ويتمردوا وينقلبوا عليها ويسعوا إلى غيرها.. وإن لا يزال ذلك فى غرف مغلقة.. فما فى القلب فى القلب.
ولو كان الغرب قد فرض عقوبات على روسيا بعدما فعلت فى القرم بما أفقد عملتها «الروبل» نصف وزنه فى لكمة واحدة فإن مساندته لطهرن فى مشروعاتها النووية وخيانته «العيش والملح» مع الحلفاء العرب أنقذ روسيا من أزمتها.. فقد ذهبنا إليها عارضين عليها صفقات متعددة الأنواع.. رفعت على الأقل حجم تبادلها التجارى مع مصر خلال الستة شهور الأخيرة بنسبة 106 فى المائة.. لصالحها.. والبقية تأتى بسرعة الميج 29.
لقد قدمت روسيا زورق صواريخ طراز كروفت عربونا عسكريا عن محبتها ودعته يساهم فى حفل افتتاح القناة الجديدة.. وقبلها بأسابيع جرت تدريبات بحرية مشتركة بين البلدين.. وتجدد الحديث عن صفقة السلاح التى تزيد عن الثلاثة مليارات دولار.
تصور البعض أن ما يفعله السيسى نوع من إثارة الغيرة فى قلب واشنطن «الحبيب السابق» ليعود إلى صوابه قبل عشه.. على طريقة أفلام الأبيض وأسود.. لكن.. ذلك لم يكن صحيحا.. فلم يثن تجديد المعونة العسكرية الأمريكية لمصر عن مواصلة المشوار مع تكتل الصناعات العسكرية فى موسكو.. وغالبا ما ستحسم زيارته الأخيرة ما علق من أمور.
قبل الزيارة تضاربت المعلومات.. وكالة إنترفاكس ذكرت أن القاهرة وموسكو وقعتا اتفاقا لتوريد 46 طائرة ميج 29 بنحو مليارى دولار.. لكن.. انستازيا كرافتشيكو المتحدثة باسم شركة ميج نفت أن يكون العقود وقعت ووصفت كثيرا مما يقال بأنه مبالغات إذا لم يكن مغالطات.
ستحسم الزيارة موقف طائرات الميج 29 المقاتلة بنفس الدرجة التى سيحسم بها مشروع الضبعة لبناء مفاعلات نووية تنتح كهرباء.. فكل ما حدث حتى الآن توقيع اتفاق مبدئى بين البلدين خلال زيارة بوتين إلى القاهرة فى فبراير الماضى.
وحسب ما سمعنا من وزير الكهرباء فإن مصر طلبت عروضا فنية ومالية وتمويلية من خمس دول مختلفة (ألمانيا وكوريا والولايات المتحدة وروسيا والصين) وجاء خبراء من هذه الدول وزاروا الموقع على الطبيعة وبدا واضحا أن العرض الروسى الأفضل.. تمويل روسى للمكون الأجنبى بنسبة 80%.. وتوفير 32 طنا من وقود اليورانيوم سنويا.. ووصول نسبة المكون المصرى إلى 35 %.. بجانب اختصار مدة التنفيذ سنة عن الوقت المعتاد.
وفى فترات تنفيذ المفاعلات تصدر روسيا إلى مصر 24 شحنة غاز طبيعى مسال بدءاً من الربع الأخير من العام الحالى.. حسب العقد الذى سيوقع خلال الزيارة مع شركة روسنفت.. أكبر منتج نفط هناك.
وهناك عقد آخر سيوقع خلال الزيارة لتأسيس منطقة تجارة حرة فى عتاقة (السويس) لكنه.. توقيع مبدئى.. ستناقش تفاصيله النهائية فى ديسمبر القادم.. حيث ستعقد اجتماعات مشتركة بين الحكومتين.. أما ما تسرب من معلومات مبدئية عنه فلا تزيد على بناء مصانع روسية تنتج سيارات نقل ومواد بناء وناقلات بحرية ونهرية ومعدات طاقة وأدوات طبية.. ويقتصر البدء على الجانب الروسى.
أما الجانب الخفى فى الزيارة فيتعلق حول التعاون الأمنى.. وسبق السيسى مجموعة من العسكريين شاركوا فى دورة تدريبية روسية لمواجهة الإرهاب.. وبحسب صحيفة نيويورك تايمز فإن رئيس الوفد المصرى أعجب بنظام الستريليتس.. أو نظام التتبع الإلكترونى المستخدم فى أنظمة الدفاع الجوى والمروحيات ويقدر على تحديد موقع العدو ويرصد تحركه حتى يقضى عليه.
وسبق أن التقى السيسى فى مارس الماضى سكرتير مجلس الأمن القومى الروسى نيكولاى باتروشيف وناقشا معا فى القاهرة خبرات القضاء على الإرهاب التى كونها الروس فى حربهم ضد التنظيمات الدينية المسلحة فى الشيشان.
لكن.. الأهم.. أن نمو العلاقات المصرية- الروسية يأتى هذه المرة فى مناخ عربى حاضن ومرحب ومساند ومؤيد.. فالسعودية التى كانت تعتبر الذهاب إلى الجحيم أهون من الذهاب إلى موسكو وجدت نفسها تتجه إلى الرفيق الروسى بعد أن خذلها الصديق الأمريكى.
فى الصيف الماضى سافر محمد بن سلمان وزير الدفاع مدير الديوان الملكى ولى ولى العهد إلى سان بطرسبرج فاتحا ذراعيه لتعاون شديد التنوع فى مجالات مبتكرة نوويا وفضائيا وعسكريا وإسكانيا واستثماريا.. إن الجيل الجديد من حكام الرياض يتجاوز عقد الماضى بعقل منفتح.. مؤمنا بالندية لا التبعية.. بشرعية القوة مهما كان مصدرها.. بأهمية المصلحة الوطنية ولو تغيرت خريطة التحالفات الدولية.
إن الخطأ الذى هوت إليه السياسة الأمريكية تحديد القوى الإقليمية على هواها وحصرها فى إسرائيل وتركيا وإيران.. متجاهلة مصر والسعودية بتحكمها فى السلاح المباع لهما.. لكنه.. تجاهل لم يعد له ما يبرره بالحصول على أسلحة متطورة من مصادر أخرى فرنسية وروسية وصينية.. بجانب الدخول فى النادى النووى سلميا ليفتح الباب عما يزيد على ذلك مستقبلا.. فالطريق النووى ليس له حدود.. ويمكن تغيير الشروط مهما كانت القيود.
إن السيسى قاد انقلابا استراتيجيا فى الشرق الأوسط بوصول أكثر العرب انتماءً لوشنطن إلى موسكو.. هذا هو التغيير الحاد الأكثر أهمية فى العلاقات الدولية والإقليمية.. أما الحديث عن الميج والضبعة وعتاقة فكلها أدوات تدعم الانقلاب وتؤكد وجوده.
لقد عشنا وشفنا أشد العرب عشقا للولايات المتحدة فى الكرملين.. لكنها.. السياسة التى تقلب القلوب.. وتمسح ذاكرة العشق من الأفئدة لتتيح لها حبا كان فى يوم من الأيام مستحيلا.