عادل حمودة يكتب:التاريخ السرى للقناة
سعيد يمنح ديليسبس الامتياز 99 سنة بطبق مكرونة اسباجتى
■ إسماعيل يصف أوجينى بالغزالة الجميلة التى تتمتع بشفايف مثل العسل
■ شّيد إسماعيل قصرا لها ومنحها دهبية فى النيل وسفينة بموتور ولم ينل منها سوى قبلة على اليد
■ رسالة من الإمبراطورة إلى زوجها نابليون الثالث: «الخديو حدثنى بطريقة ستجعل شعر رأسك يقف من الدهشة»
سيطرت مظاهر السمنة على الخديو سعيد وهو صبى على عتبة المراهقة.. مثله مثل غالبية ذكور العائلة المالكة المصرية خلال نضجهم.. واعتبر والده محمد على الكبير هذه النعومة فى الجسد شيئا كريها.. فأمر بتدريبه تدريبا عسكريا شاقا.. تسلق أسطح السفن.. الجرى خلف أسوار القاهرة.. والسباحة فى مياه النيل الثقيلة بالساعات يوميا.. وعندما كان ينهى تمريناته البدنية الشاقة مساء لم يكن ليجد أمامه من الطعام سوى العدس والخضروات.
ولم يكن مسموحا لأحد من خارج القصر أن يراه إلا قنصل فرنسا فى مصر فرديناند ديليسبس الذى لم يكن يتردد فى تقديم أطباق «المكرونة» المختلفة إليه بعيدا عن أعين الجواسيس.. فنال رضاء الباشا الصغير.
كانت تعد هذه الأطباق صديقة ديليسبس أوتار دور برجار التى كان يكبرها بثلاثة وأربعين سنة ولم يتزوجها إلا بعد أن حقق حلم عمره.. شق قناة السويس.
كانت تراهن على كل الشخصيات لتتلافى كل ما فى المشروع من عقبات.. ويبدو أن سحر الطهى الذى تجيده كان الأشد تأثيرا.
ما أن تولى سعيد الحكم فى صيف عام 1854 حتى أصبح ديليسبس «فرخة بكشك» فى بلاطه.. فجدد مرة أخرى طلب منحه امتياز شركة قناة السويس لمدة 99 سنة.. وعلى مائدة شهية بطبق الاسباجتى المغطاة بالصلصة الحمراء وقطع اللحم الصغيرة صدر الفرمان العالى فى خريف نفس العام.. بعد ستة شهور فقط من الجلوس على العرش.
ربما.. تبدو القصة خفيفة.. لكن.. من المؤكد أنها حقيقية.. ولو كانت خفية.. نعم.. بطبق مكرونة تغير تاريخ مصر.
إن خلف كل حكاية سياسية مؤثرة تفاصيل إنسانية مثيرة.. عادة ما تكون كاشفة وفاضحة لمناطق مجهولة فى الرواية المعلنة.. المعتمدة.. والمنتشرة.
ولحكاية القناة أكثر من وجه.. أكثر من رؤية.. أكثر من رواية.. روعة تخفى تحتها نقمة.. ثروة تتفجر لعنة.. مال تسبب فى احتلال.. استراتيجية تهدد بتبعية.. وأناشيد وطنية ترطب مقابر شهداء ماتوا بحسن نية.
لقد فتح إنشاء القناة وتصدير القطن الباب أبواب مصر أمام ثروات فجائية.. لم تكن فى الحسبان.. ولكنهما فتحا أيضا أبوابها أمام «أصحاب بنوك ومرابين وتجار ولصوص وسماسرة وعاهرات وقتلة وجواسيس» حسب وصف ديفيد لاندز فى كتابه «بنوك وباشوات» الذى ترجمه الدكتور عبد العظيم أنيس.. وسنستند إليه فى بعض مما نكتب.
إن نابليون بونابرت عندما شن حملته العسكرية على مصر لم يكن عدد الأجانب فى مصر ليزيد على مائة شخص أغلبهم تجار يعيشون فى الإسكندرية ودمياط.. وحسب القواعد التى فرضها المماليك على غير المسلمين كانوا فى عرفهم مبنوذين.. يرتدون ملابس مفروضة عليهم لتمييزهم بسهولة.. بجانب تعرضهم للإهانات المباشرة.
فى زمن الأسرة العلوية تغير الحال.. دخل البلاد سنويا نحو 50 ألف أجنبى فى المتوسط.. أسس بعضهم شركات وبنوكًا.. وكباريهات.. وبيوتًا للقطن.. وبيوتًا للدعارة.. وتحول قناصل اليونان وإيطاليا وإنجلترا والنمسا وفرنسا إلى مراكز سيطرة.. فرضوا بعدها عصر الامتيازات والتعويضات الأوروبية.
تاجر أثاث فرنسى كان على وشك الإفلاس واحتاج إلى 100 ألف فرنك طلبها قنصل فرنسا من الخديو سعيد فلم يتردد فى دفعها من خزينة الدولة.. بجانب منحه ابنه - طبيب نمساوى كان يعالج والده - معاشا شهريا باهظا لم يقرره لوزير.. وصرف لتاجر يونانى مليون فرنك مقابل صورة كمبيالة مزعومة قيل إنها موقعة من عمه عباس الذى وصف بالبخل الشديد.
واستمرت تلك السياسة فى عصر إسماعيل فقد منح مسيو كونسيل 10 آلاف فرنك ومعاشا سنويا يصل إلى 3600 فرنك تعويضا عن ضرب جنود مصريين له.. ودفع ضعف التعويض إلى فرنسى آخر بسبب فساد 12 صندوقًا بها شرانق دود الحرير بسبب الحر.
وحدث أن طلب سعيد من خادمه إغلاق النافذة المفتوحة وراء ظهر أحد ضيوفه الأجانب خشية أن يصاب بالبرد فيطالب بتعويض باهظ.. لقد تفتحت شهية الغرب لالتهام خيرات مصر مسجلة بدء النهب الكبير لها.
لم يكن سعيد يعرف قيمة النقود وأنفقها بلا حساب على رحلاته وقصوره «صرف 100 ألف جنيه على تزيين غرفة واحدة فى قصره» وفى المقابل ضغط النفقات العامة.. بيعت الخيول الملكية.. فصل موظفون بالجملة.. خفض الجيش إلى قوة رمزية لا تزيد على 2500 جندى.. وفى نهاية العام الأول لحكمه وصلت ديونه إلى 11 مليون جنيه.. وفى نهاية حكمه تضاعف الدين ثلاث مرات.. بأسعار ذلك الزمان.
كان إسماعيل مستبدا خيرا.. أحلامه تفوق واقعه.. وخيالاته تتجاوز إمكانياته.. كانت مشروعاته كلها قيمة.. لكنها كانت باهظة التكاليف.. أراد أن يبنى ميناء صناعيا فى الإسكندرية.. ويسترجع الأرض التى ابتلعها البحر كما حدث فى مارسيليا.. واعتزم تجميل القاهرة بحى جديد على الطريقة الباريسية.. ومحطة سكك حديدية شامخة.. وخطوط قطارات إلى الخرطوم.. ومتحف مصرى.. وفنادق.. ومسرح.. وبورصة.. وأوبرا.. ولوضعه فى الاعتبار الأرباح المستقبلية نوى إقامة بعض المشروعات التجارية لحسابه الخاص.
لكن.. ما يلفت النظر أن إسماعيل المبذر فى الإنفاق العام كان بخيلا فى إنفاقه الخاص.. فقد كان على سبيل المثال يتشاجر مع بستانيه على أمور تافهة.. ورفض دفع البقشيش لخادمة فى أحد فنادق باريس.. وفى الوقت نفسه أنفق الملايين بلا حساب على قصوره ومتعته وتسليته.. «وطبقا للتقاليد الشرقية اهتم اهتماما كبيرا بفاعلية الأبهة والعظمة كأدوات سياسية».
وحسب وصف المقربين منه كان قبيحا.. بآذان كبيرة عريضة وحواجب بارزة مهلهلة غير منتظمة حمراء وجفن منخفض عن الجفن الآخر إلا أنه كان يتمتع بشخصية جذابة.. ومتحدث لبق قادر على جذب عواطف مستمعيه.. وبخلاف معظم الملوك كان مستعدا لاستقبال الزوار.. مهمين أو مهمشين.. دون تفرقة فى الاحترام.
ولو كان سعيد قد دفع ثمن الأسهم التى اشتراها من شركة القناة بقروض أذونات الخزانة تزيد على 17 مليون جنيه فإن إسماعيل تنازل عنها وفاء لديون تراكمت عليه بسبب حفل افتتاح القناة.. فقد قرر شق المجرى الملاحى بيخت محروسة الفريد فى زمانه.. كما رصف الطريق إلى الأهرام.. وشيد قصرًا على النيل لتنزل فيه إمبراطورة فرنسا.. وجهز استراحة الصيد لتصبح فندقا قريبا من الأهرام.. مينا هاوس.. وبجانب ما اقترض وفاء لمشروعات أخرى أعلنت مصر إفلاسها.. تمهيدا للاحتلال البريطانى عام 1882.
وفيما بعد ظلت مصر تدفع ديون إسماعيل التى وصلت إلى 91 مليون جنيه إسترلينى حتى عام 1943.. تحملت تلك الديون 70 سنة بعد إعفاء إسماعيل من الحكم.
حضر حفل افتتاح القناة فى 17 نوفمبر 1868 على شاطئ بورسعيد إمبراطور النمسا وولى عهد بروسيا وأمير هولندا وأوجينى زوجة نابليون الثالث ومئات الشخصيات الشهيرة فى العالم.. وحظيت أوجينى بالذات باهتمام كبير كشفت تفاصيله وأسراره وثائق فرنسية رسمية اعتمدت عليها موسوعة شهيرة سميت « قصص الغرام فى تاريخ فرنسا» التى كتبها جى بردتون.
إن ديليسبس ابن خال أوجينى ولكن دعوته إليها بحضور حفل الافتتاح لم تكن سبب حضورها.. لقد كانت تعانى من أزمة نفسية حادة بعد اتهام زوجها نابليون الثالث «ابن عم بونابرت» لها بالبرود.. وسعت جاهدة ليتنحى عن العرش ليرثه ابنهما الذى لا يزيد عمره على 12 سنة بشرط أن تكون وصية عليه.
تصورت أن رحلة إلى الشرق ستشفى روحها الجريحة.. وتعيد الثقة إلى نفسها المحطمة.. خاصة أن زوجها شجعها على السفر وحدها ليخلو له الجو مع عشيقته لويزا التى تجاوزت حدودها بأن طلبت منه منع زوجته من حضور جلسات البرلمان.
بدأت رحلتها فى شهر سبتمبر.. تركت قصرها فى منطقة سان كلو بوداع بارد من الإمبراطور.. وصلت بالقطار إلى تورينو فى إيطاليا.. وفى فينسيا صعدت إلى اليخت الإمبراطورى ( لو إيجل أو النسر ).. وبعد استراحة قصيرة فى اليونان توقف اليخت فى القسطنطينية وقدمت سيدات البلاط العثمانى لها سجادة منقوشاً عليها صورة زوجها مجسدا فيها الشعر فى الرأس واللحية.
فى القاهرة شيد إسماعيل قصر الماريوت لتقيم فيه.. وزارت صعيد مصر بدهبية تجرها سفينة بموتور.. وعلى ظهر جمال شاهدت معالم الأقصر وأسوان.. بصحبة عالم المصريات مارييت الذى سرد عليها تاريخ الفراعنة مما خفف من غيظها من زوجها بل وراحت تختلق له الأعذار لخيانتها واعترفت ببرودها خاصة أنها تابعت الموقف السياسى المتأزم لزوجها من خلال البرقيات التى كانت تصل إليها يوميا.
سافرت إلى بورسعيد باليخت الإمبراطورى بصحبة شخص غريب الأطوار يدعى باوور اشتهر بملابسه الغريبة وحكاياته المثيرة ورغبته الجنسية المتوحشة.. وهو الذى ألقى كلمة أوجينى وقال فيها : « إن الفتيات المصريات يستطعن الآن رؤية وجوههن فى المياه المخلوطة من البحرين».
خلال حفل العشاء بدا أن إسماعيل يخطط لشىء ما يدور فى ذهنه.. لم يتوقف عن نظراته الساخنة إلى أوجينى وراح يمدحها بشهوة ظاهرة مما أصاب حاشيتها بالهلع خاصة عندما وصفها بالغزالة الجميلة وقارن بين شفتيها وعسل النحل مضيفا أن لا يوجد فى محار العالم أجمل من أذنيها.. عالجت أوجينى خجلها بابتسامة بسيطة حتى لا تحرجه وتجنبا للفضيحة لكن المشكلة أنه اعتبر الابتسامة دعوة لمبادلة الغرام فى نهاية السهرة.. فذهب إليها فى صالونها الخاص فشعرت بالخوف واستدعت سيدات حاشيتها.. فهم إسماعيل أن طريقه مسدود.. فطلب فى النهاية أن يقبل يدها.. وحين دخلت فراشها كتبت لزوجها قائلة: «إن الخديو يحدثنى بطريقة ستجعل شعر رأسك يقف من الدهشة والاستغراب».. وقرأ الإمبراطور الرسالة بسعادة وهو يصحب لويزا.. إن التاريخ الشخصى للقناة لا يقل سخونة عن التاريخ السياسى لها.. كل منهما لونه أحمر.. أحمر متعة.. وأحمر دم.