اغتصاب إسكندرية يوسف شاهين بالزبالة وحلل المحشى

العدد الأسبوعي

بوابة الفجر


لقد مرت 7 سنوات على رحيل الأستاذ..

لقد مات قبل أن يشاهد مصر تثور مثلما حرض على ذلك فى كل أفلامه، لقد مات وترك كل من حوله يتامى، أشعر باليتم لأننى لا أستطيع أن أقابله وأتحدث معه، لقد وافق على أن يعطينى أكثر من حوار صحفى وأنا مازلت طالبا بالجامعة، كان يشير لصورة كبيرة من شباك منزله قائلا «إكتبوا عن الحمار ده هايودى البلد فى داهية» وكانت الصورة لمبارك.

الحمد لله لأنه مات قبل أن يشاهد الإسكندرية تغتصب الآن بالقمامة وحلل المحشى والزحام، إن من يرى الإسكندرية فى أفلام الأستاذ ويشاهدها الآن يعرف ماذا جرى للمصريين، وقبل أن يتهمنى أحد بالعنصرية أو مصادرة حق البسطاء فى المصيف أطلب منه أن يذهب إلى نويبع ودهب وطابا وراس الشيطان حيث يوجد آلاف المصريين يذهبون للسياحة وبأسعار أقل بكثير من الإسكندرية ويحترمون شواطئها وطبيعتها، فهناك غرف يتم إيجارها فى اليوم بـ100 جنيه فقط لكنك تشعر كأنك فى مكان بنظافة ونظام شواطئ الريفيرا الفرنسية.

إسكندرية يوسف شاهين تستطيع أن تراها فى فيلم «إسكندرية ليه»، هذا الفيلم بالنسبة لى هو الأهم لأنه الخطوة الأكثر جرأة فى تاريخ أفلام السيرة الذاتية على المستوى المحلى والعربى وربما العالمى. «إسكندرية ليه» كان اللوحة الأكثر إبهارا من بين ما رسم شاهين، تداخلت ألوانها بشكل شديد التناسق لتعكس هذا المجتمع «الكوزموبوليتانى» - المنفتح على الثقافات المختلفة – الذى كانت عليه مدينة الإسكندرية، وكأن هذا المجتمع قد تحقق ليأتى «شاهين» نفسه.. الأب من أصول لبنانية والأم يونانية.. العلاقة بينهما صعبة لكنها تتحقق.. يأتى الطفل الذى يزيد من خيوط هذه العلاقة تعقيدا، وتؤكد صداقاته المتعددة أن مجتمع الإسكندرية لم يفقد انفتاحه رغم الاحتلال الواقع تحت سطوته. الحرب العالمية الثانية التى تحاصر أحلام ساكنيه.. الألمانى روميل على أبواب العلمين لحسم معركة فاصلة مع القائد الإنجليزى مونتجمرى ، تتباين المشاعر الوطنية بين مؤيد للهجوم النازى ومعارض له بينما معارك أخرى يشهدها المجتمع ما بين طبقة رأسمالية مالية تنتفع من هذه الحرب وطبقة منسحقة اكتوت بنارها. يهود يبحثون عن الهجرة إلى أرض الميعاد وآخرون يهربون من المذابح النازية، تناقضات شديدة التشابك بين الشخصيات على المستوى السياسى. سارة سوريل (نجلاء فتحى) اليهودية بنت الإسكندرية التى وقعت فى غرام إبراهيم (أحمد زكى) العامل الشيوعى، تقع بين مطرقة حبها للإسكندرية ومصر وطفلها الابن الشرعى لهذه العلاقة، وبين سندان الأب الرأسمالى (يوسف وهبى) الذى يبحث عن أرض الميعاد تحقيقا لأطماعه، والأخ المراهق المتحمس لدولة صهيونية خبيثة تنشأ فى السر. يعشق الأب أيضاً الإسكندرية ويكره الرحيل منها، إلا أن النازيين يقفون له على الأبواب، ويرحل إلى جنوب إفريقيا وفى لحظة يكتشف أن لعبة دولة إسرائيل أكثر ربحا له من حبه للإسكندرية، خاصة أنه الشهيد الهارب من الجحيم النازى فى نظر الآخرين. أمريكا تكتشف أن السعودية تعوم على بحر من البترول وتريد وضع ذراع لها فى المنطقة لحراسة هذا البحر الذهبى، هنا نرى أفكارا سياسية متشابكة تشبه ذات يوسف شاهين، الذى يريد طرح الكثير من الأفكار المتداخلة فى جمل حوارية قصيرة تحمل قدرا من التلعثم.

إن المدينة فى هذا الفيلم كانت جميلة على الرغم من أنها تحت الاحتلال، لقطات بانورامية تستعرض جمال المعمار الأوروبى الذى انتشر فى الإسكندرية، استعان فى بعض اللقطات بالأماكن الحقيقية واستعاض فى لقطات أخرى بأماكن شبيهة، المدينة كانت: كورنيش جميل ومفتوح على البحر.. مسرح الهمبرا.. فيكتوريا كولدج..الترام..البنك.. الكباريه.. البيوت.. القصور.. سينما مترو.. محلات تجارية.. محطة القطار. يوسف شاهين قال عنها: الإسكندرية عندى ليست مجرد مدينة.. وإنما فكرة عن حياة مفتوحة بلا خوف، مثل البحر المتسع لكل شيء.. ملء العالم كله، الإسكندرية فى هذا الفيلم مركز للعالم.. أولا: ثقافيا وتجاريا من خلال تجمع قدر كبير من الجاليات الأوروبية، وقيمة الفن فيها والثقافة من خلال السينما والمسرح والملاهى الليلية وقبلها وعى الحركة العمالية لمايحدث حولها. ثانيا: سياسيا حيث كانت الهدف الأول لمعركة طاحنة بين دول الحلفاء والمحور تدور فى العلمين، كما أنها نافذة مصر البحرية على الغرب ونافذة الغرب للتعرف على الشرق أيضا. المدينة التى أسسها الإسكندر سنة 333 ق.م وأصبحت مركزًا للثقافة العالمية واشتهرت بمكتبتها الغنية وبمدرستها اللاهوتية والفلسفة، المدينة التى شهدت قصة الحب الخالدة بين أنطونيو وكليوباترا، هى ملتقى حضارات وثقافات ومركز أيضا لعالم «ذات» يوسف شاهين إذن لم يتغير حبه للمدينة من وعى يحيى الفتى ذى الأربعة عشر عاما إلى نضج المخرج خمسينى العمر. نرى هنا امتدادا غير مباشر لآثار نكسة 67 فى وعى يوسف شاهين وجيله. يعتقد البعض أن تأثير النكسة امتد سينمائيا فى ثلاثية «عودة الابن الضال» و«العصفور» و«الاختيار»، الثلاثية التى عرى فيها جيلا كاملا ومجتمعا ومشروعا سياسيا، تحدث فيها عن التناقض الداخلى الذى يعيشه المثقف، والقهر السياسى وكبت الحريات فى الفترة الناصرية، ودعوته الصادمة إلى هدم المنزل وإعادة بنائه من جديد. فى «إسكندرية ليه» يحاول يوسف شاهين تبرئة نفسه من النكسة، على الأقل يتحدث عن نفسه وربما يبرئ جيلا من المثقفين سبق وأدانهم فى أفلامه السابقة. هنا يطرح الكثير من التساؤلات تبدأ من الخاص أو الذات لينطلق منها إلى العام، من أين أتيت؟ كيف تكون هذا الجيل فكريا ممثلا فى شخصية يحيى؟ هل لهذه النشأة تأثير على تفكيرى فى المستقبل؟

إن يحيى الفتى الذى تحركه موهبته فى كل شىء منفصل عن الواقع السياسى والاجتماعى، لأنه لا يرى سوى معهد «باسادينا» والسفر إلى أمريكا كى يتعلم السينما، هنا نرى ازدواجية مدهشة بين الفتى المراهق الذى تدفعه خلاياه المعجونة بماء الفن نحو إغلاق عينه أمام الواقع السياسى والاجتماعى فى هذه الفترة، وبين هذا المخرج خمسينى العمر.. أو يحيى بعدما نضج فكريا، من المشاهد الأولى للفيلم تستطيع أن تكتشف شخصية يحيى المولع بالفن. غرفته التى استعرضتها الكاميرا والمعلقة فيها صور «جينجر روجرز» و«فريد استاير»، تفضيله لمشاهدة فيلم سينمائى للمرة الثانية بدلا من التسكع مع فتيات الليل. هو فتى لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، الحياة بالنسبة له خشبة مسرح، يتعامل على هذا الأساس مع الجميع، لا يهتم سوى بحبه للتمثيل، نرى هذا واضحا فى حوار له مع الأم فى أحد المشاهد٠الأم: أنا لسه راجعة من محل وادى الرحمة.. رهنت الخاتم بتاعى٠يحيى: وأنا لسه جاى من عند البرنسيسة شاهينور قبلت إنى أعمل الحفلة تحت رعايتها٠

ولأنه فقير وليس وسيما فقد أصبح أهم راقص فى «فيكتوريا كولدج».. فى هذا الفيلم كان سبب تحوّل يحيى إلى راقص بارع أنه مولع بالفن، وفى فيلم «إسكندرية نيويورك»(2003)، رابع أفلام سيرة يوسف شاهين الذاتية، كان احترافه للرقص وسيلة لجذب الفتيات إليه.. هكذا قال لجينجر (يسرا)٠وعلى الرغم من الظروف المحيطة بيحيى، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية فإنه لا يأبه لها، ولا ينظر سوى إلى معهد باسدينا بالولايات المتحدة الأمريكية، يتعرض الفتى لصدمتين طوال الأحداث يشكلان وعيه، أتحدث هنا عن يحيى الفتى المراهق وليس الفيلسوف الجالس وراء الكاميرا، الصدمة الأولى حينما يفشل عرضه الذى أقامه على مسرح الهمبرا وبرعاية الأميرة شاهينار، اكتشف وقتها أنه لم ينضج بعد ومازال فتى يحتاج إلى التعليم، فى هذه اللحظة يعود إلى المقابر لزيارة قبر شقيقه الذى كانت تتمنى جدته أن يعيش مقابل موت يحيى، وهى واقعة فى ذاكرته حينما حرق تمثالا للمسيح وتصور أن الله عاقب شقيقه بدلا منه، ومن وقتها يشعر بتأنيب الضمير، وفى لحظات أخرى يريد أن يثبت لجدته أنه الأجدر بالحياة.. وسينجح ويصبح فنانا كبيرا٠