د. نصار عبدالله يكتب: يوم عادت الملكة القديمة
أحببت هذا العمل البديع واستمتعت به كثيرا مثلما استمتعت من قبل بالكثير من أعمال صنع الله إبراهيم التى قدر لى أن اقرأها، ولقد شعرت بالأسف أنى قد تأخرت عن قراءته ما يقرب من ثلاثين عاما، ذلك أنى لم تقع يدى من قبل على طبعته الأولى التى صدرت عام 1986 عن دار الفتى العربى طبقا للإشارة الواردة فى الغلاف الداخلى من الطبعة الجديدة التى أتيح لى أن اقرأها فى الأسبوع الماضى فقط (وهى الطبعة الرابعة الصادرة عن دار الثقافة الجديدة هذا العام 2015).. أما الملكة التى عادت فهى ملكة لإحدى خلايا النحل... فرقت يد الإنسان بينها وبين مملكتها.. فحين ضاقت الخلية بسكانها نتيجة لتزايد أعدادهم هجروها ومعهم مليكتهم بحثا عن ملجأ أرحب، وخلال رحلة البحث استقروا متكدسين على شجرة وارفة بعد أن أرسلوا فرقة من الكشافة تستطلع المكان بحثا عن الملجأ المرتجى، وحينئذ قام أحد القرويين من ذوى العلم بأحوال النحل وأفضل توقيتات اقتناصه، قام بانتهاز الفرصة وكنس النحل بفرشاة، ثم قام بإفراغه فى سلة كبيرة وإيداعه بعد ذلك خلية خشبية، وإذ لم تصل الفرشاة الكانسة إلى الملكة فقد ظلت فوق الشجرة ثم عجزت عن الاهتداء إلى مكان الخلية الخشبية الجديدة التى أصبحت الآن مملكة بغير ملكة!!.. هذا النص البديع الذى يقدمه الروائى الموهوب صنع الله إبراهيم يمكن اعتباره نصا منتميا لأدب الطفل إذ إن فيه ما يمكن أن يستمتع به الأطفال وما ينمى به -فى الوقت ذاته- معرفتهم ومعلوماتهم عن عالم النحل الحافل والمثير، ويمكن اعتباره أيضا كتابا فى تبسيط العلوم موجها إلى الكبار بنفس القدرالذى هو موجه به إلى الصغار، إذ إن كل المعلومات الواردة به دقيقة وموثقة، استقاها المؤلف من خلال رجوعه إلى عدد من المراجع العلمية ذات المصداقية، لكنه قبل ذلك وإلى جانب ذلك نص فنى بديع محكم البناء يحكى دورة حياة كاملة سواء بالنسبة للملكة التى ضلت طويلا مكان مملكتها ثم اهتدت إليه، أو بالنسبة للخلية التى أقامت فى خلية طبيعية ثم نزحت ثم استقرت فى خلية صناعية، دورة حياة كاملة توازى الحياة البشرية أحيانا وتتقاطع معها أحيانا أخرى وفى كلا الحالين تحفل بالمشاهد التى لا تنسى على سبيل المثال مشهد قائد الفرقة الموسيقية النحاسية الذى اعتاد على نهب أفراد الفرقة ووضع الجزء الأكبر من أجورهم فى جيبه وهو مضطجع على العشب مزهو بنياشينه اللامعة مسند بظهره إلى جذع شجرة جميز عتيقة غير منتبه إلى أنه يسنده إلى مملكة كاملة من النحل!! أو مشهد النحل الأصفر الذى كف عن العمل وعن جمع رحيق الزهور بعد أن اكتشف أن من الأسهل أن يسطو على عسل الآخرين، وهكذا راحت أسرابه تترصد الخلايا الأخرى حتى إذا اطمأنت إلى خروج سكانها إلى العمل هاجمت الخلية الخالية التى ليس فيها سوى أعداد محدودة من النحل الحارس، وتدور معركة غير متكافئة بين جحافل اللصوص وكتائب الحراس التى يسقط أغلبها صريعا وهو يدافع عن ثمار كده وكدحه.. والواقع أن قائد الفرقة الموسيقية الجشع ما هو إلا النسخة البشرية من النحل الأصفر، وكأن الكاتب يحاول أن يوصل إلينا رسالة مؤداها أنها النواميس الطبيعية للأشياء التى تسرى على كائنات الطبيعة كما تسرى على عالم البشر: أن يكون هناك كادحون وأن يكون هناك دائما لصوص!! كذلك فمن بين المشاهد التى لاتنسى: مشهد تلقيح الملكة عندما تطير بأقصى سرعتها يتبعها الذكور حيث يتساقط الضعفاء منهم نتيجة لمجهود الطيران العنيف ولا يصمد إلا الأقوياء الذين يواصلون سباقهم المحموم نحو جسد الملكة، ويبذلون جهودا جبارة تتطلب من كل منهم تنفسا عميقا فتتضخم قنواته الهوائية وتضغط على البطن فتنفصل الحلقة الأخيرة المحيطة بمؤخرته وتسقط كالكبسولة وتبرز أعضاؤه التناسلية، وما إن ينجح أحدهم فى اللحاق بها حتى يغرس فى بطنها كل تلك الأعضاء بما فى ذلك الكيس الذى يحمل حيواناته المنوية وتستقر الأعضاء فى جسد الملكة ومعها جزء من أحشاء الذكر الذى يسقط بعد ذلك ميتا بعد أن أدى مهمته الوحيدة، أما الملكة فإنها تعود إلى خليتها وهى تجر خلفها أحشاء الذكر البائس فى شكل سلخة من النسيج الأبيض معلقة فى نهاية بطنها.