د/نصار عبدالله يكتب: رفاق الخيمة
التحقيق الصحفى الرائع الذى نشره الأستاذ أحمد فايق على مدى العددين الماضيين من الفجر، والذى كشف فيه عن مصير 41عالما مصريا تخرجوا فى قسم الهندسة النووية بجامعة الإسكندرية، كان المأمول منهم أن يحققوا الحلم النووى لمصر فى عصر عبدالناصر، لكنهم الآن مفرقون فى الشتات بعد أن تخاطفتهم جامعات العالم المتقدم لكى يكونوا جزءا من مشاريعها هى لا من مشروعنا نحن!! هذا التحقيق أثار فى نفسى شجونا كثيرة، لأننى شاء لى قدرى يوما أن أكون رفيق سلاح لاثنين منهم (بعد انقطاع طويل بيننا فى أعقاب انتهاء خدمتنا العسكرية جمع البريد الإلكترونى بينى وبين واحد منهما ما زلت متواصلا معه حتى الآن، وقد أخبرته بما نشره الأستاذ أحمد فايق، فرد على بأنه يتابع باهتمام ما أكتبه شخصيا وأنه يتابع كذلك الكثير مما تنشره الصحافة المصرية، وأنه رغم كل شىء مازال مهموما بمصر).. وقد سبق لى أن سجلت ذكرى لقائى به فى مقال نشرته بالأهرام بتاريخ 23ديسمبر 2001، أرى أنه قد يكون مفيدا أن أعيد نشره وأن أقدمه لقارئ «الفجر» فى هذه المناسبة
***
ياله من عالم صغير حقا.. لم أكن أتصور أن رسالة ينشرها بريد الاهرام سوف تنبئنى عن مآل رفيقين من رفاق السلاح انقطعت عنى أخبارهما منذ ما يقرب من أربعة وثلاثين عاما، وأما الرسالة التى أقصدها فهى رسالة الدكتور مينا بديع عبدالملك التى نشرت بعنوان «الذكريات الطيبة»، والتى تحدث فيها عن بعض خريجى الدفعة الأولى لقسم الهندسة النووية بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية.. أما الرفيقان فهما: «محمد هلال» و«وجيه عزيز واصف» اللذان جمعتنى بهما خيمة واحدة من خيام مركز التدريب بسلاح الحرب الكيماوية، حين كان أغلب المجندين به إما من خريجى كلية الهندسة أو من خريجى كلية العلوم، أما سر تجنيدى به برغم أنى لم أتخرج فى أيهما فهو أننى كنت من خريجى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وأغلب الظن فإن المنوط بهم توزيع المجندين على الأسلحة المختلفة قد لاحظوا كلمة: «العلوم» ولم يفطنوا إلى أن كلمة «السياسية»، تبعدهم عن المطلوب، ولم يخطر ببالهم على الأرجح ان هناك فرقا بين علوم وعلوم! ومما يؤكد استنتاجى هذا، ما لاحظته فيما بعد من أن عددا كبيرا من المجندين فى هذا السلاح كانوا من خريجى دار العلوم! المهم أننى وجدت نفسى فى خيمة واحدة مع مجموعة من المجندين من بينهم محمد هلال الذى حزنت حزنا كبيرا عندما عرفت من رسالة الدكتور مينا أنه كان يعمل بجامعة وسكنسن ثم انتقل إلى رحمة الله، ومن بينهم كذلك وجيه عزيز واصف الذى كان شابا وديعا خجولا بالغ الأدب والدماثة، وكان يبدو أنه من أسرة كريمة طيبة حانية لم تعدم وسيلة لموافاته بما يعينه على احتمال شظف الحياة وقلة الطعام فى معسكر التدريب، فقد كنا جميعا باستثناء وجيه عزيز وباستثناء سمير عبدالرحمن النجدى الذى كان نجلا لأحد كبار المقاولين بالمنيا، كنا جميعا برغم المجهود العنيف الذى نبذله نكتفى بما يقدم الينا فى كل يوم تقريبا من العدس والفول والفاصوليا ومشتملاتها (رمال+ سوس+ شوائب أخرى)، أما وجيه فقد كان عندما نأوى إلى خيمتنا يخرج بين الحين والحين لفافة من الورق المفضض بداخلها كباب وكفتة، ثم يدعونا بصوت مهذب خافت ملىء بالخوف والوجل (خشية ان نقبل الدعوة) أن نتفضل بمشاركته، ومع هذا فلم نخيب دعوته أو بالأحرى لم نخيب مخاوفه قط!، إذ كنا بفعل الجوع (والجوع كافر كما يقال) كنا ننقض عليها انقضاضا رهيبا حتى لا يكاد يصيبه منها وهو صاحبها شىء يذكر! فى الوقت الذى يمنعه فيه أدبه وحياؤه من أن يقاوم أو أن يحتج أو حتى أن يستأثر فى المرة التالية بما هو بين يديه!، كم أتمنى أن تتاح لى الفرصة يوما لأن أرد إليه شيئا مما اعتبرته وقتها ومازلت أعتبره إلى الآن شكلا من أشكال السلب والنهب، أكثر من كونه استجابة لدعوة لم يقصد بها صاحبها الا المجاملة! ولقد حزنت كذلك عندما علمت من رسالة الدكتور مينا انه قد ترك مصر ليعمل بجامعة تورنتو بكندا شأنه فى ذلك شأن اغلب العاملين بهيئة الطاقة الذرية التى أظنها الآن بدونهم، وبدون ما كانت تحظى به فيما مضى من الاهتمام، قد أصبحت أطلالا تبكى من شيدوها! أما سمير النجدى فقد كان عمليا وواقعيا فى سلوكه شأن سائر المقاولين، حيث كان يخبئ ثلاثة كيلو جرامات من البسطرمة فى دولاب الشاويش المكلف بالتفتيش على الممنوعات المدنية! وكان اذا احتاج إلى شىء منها اخرج منها ما يكفيه فقط، أو اقتطع قطعة أعطاها إلى من تربطه به صلة سابقة أو إلى من يرجو من ورائه منفعة ما، غير عابئ اطلاقا بتلك النظرات التى تتطلع إليه، حتى ان كانت تسكب فى البسطرمة سما. ثم يبقى بعد ذلك أن أقول إننى مهتم بمعرفة آخر اخبار اثنين بالذات من الرفاق الأعزاء لتلك الحقبة وهما عمر عبداللطيف الشرقاوى وهو مدرس للرياضيات من ابناء ميت غمر فيما أذكر ومحمود عرفات من أبناء كفر الشيخ، ولعل من بين قراء الأهرام من يعرف أخبارهما.