عادل حمودة يكتب: أنا ومرشد الرئيس 2

مقالات الرأي



أسامة الباز: الرئيس سيرفع قضية ضدك بتهمة إهانة رئيس دولة صديقة هو الملك فهد!

■ عمل مع مبارك بشروطه ومنها الاختفاء دون أن يفصح عن السبب وفضل مكتباً قديماً فى الخارجية على مكتب الرئاسة 
■ طلب منى الكف عن الهجوم على صفوت الشريف قائلا: «ده الشديد القوى»! 
■ مقال «فضيحة على النيل» أصبح حديث المدينة وأطاح بقيادات ماسبيرو وشهد ولادته وحيد حامد!


شغلت وزارة الخارجية قصرا تاريخيا يقع فى شارع «البستانى» وسط القاهرة ويحمل نفس الاسم.. هدم فيما بعد وأصبح مكانا لانتظار السيارات.

فى ثلاثينيات القرن العشرين انتقلت الخارجية إلى قصر الأميرة «نعمة الله» ابنة الخديو توفيق وزوجة السلطان حسين كامل بعد أن أهدته إلى الحكومة المصرية.

القصر بناه المعمارى الفرنسى هاو سمان بطراز بسيط وأنيق ومريح معا.. فوقع أسامة الباز فى هواه.. فلم يغادره إلى مكتبه «المودرن» فى مبنى الوزارة الجديد.. المطل على نيل ماسبيرو.. وتقع خلفه عشوائيات الترجمان.

وعندما تقرر ترميم القصر وتجهيزه للمناسبات الخاصة والشخصيات المميزة ظل أسامة الباز فى محيطه بعد أن نقل مكتبه إلى مبنى المعهد الدبلوماسى المجاور الذى بنى فى ستينيات القرن العشرين.

المكتب يمتد إلى أكثر من غرفة.. جدرانه مرتفعة.. مساحته عريضة.. تستوعب طرزا فرنسية من الموبيليا.. يصعب اكتشاف رونقها بسبب الملفات التى تغطيها.. ورغم الفوضى الظاهرة فإن أسامة الباز يعرف كل ورقة فيها.. ولا يطلب من سكرتيرته عفت ترتيبها حتى لا يفقد البوصلة والدليل.

وكان هناك مكتب ثالث له فى مبنى سكرتارية الرئيس.. بصفته المستشار السياسى لمبارك.. أو بصفته معلمه ومرشده الذى اختاره السادات ليدربه على فنون الحكم من دراسة تاريخ مصر إلى أساليب التفاوض ومن استيعاب قواعد النحو والصرف إلى التدريب على فنون الخطابة بعد أن اختاره نائبا له.

والمؤكد أنه كان يعمل مع مبارك بشروطه.. يحدد له ما يقبل وما يرفض.. وكثيرا ما كان يختفى عن الأنظار بالأيام.. لا أحد يعرف عنه شيئا.. ولا يجرؤ أحد على سؤاله عن سر اختفائه.. وربما لهذا السبب اختير الدكتور مصطفى الفقى ليكون سكرتير الرئيس للمعلومات ليسد الفراغ الذى يسببه أسامة الباز بأسلوبه «الخاص» غير المعتاد فى مثل هذه المناصب.

ورغم علاقته الإنسانية البسيطة بالكبار فى القصر الرئاسى إلى حد أن يقبل من زكريا عزمى أن يناديه باسم «سمسم» فإنه كان يتجنب الذهاب إلى مكتبه هناك.. إلا إذا فرضت عليه الظروف ذلك.

أنا شخصيا وقد اعتدت على زيارته فى مكتب التحرير لم ألقه إلا مرة واحدة فى مكتبه الرئاسى ولم يكن السبب خيرا.

فى ذلك اللقاء بدا متجهما على غير عادته.. لم يرحب بى بكلمته خفيفة الظل «أزيوكا».. ولم يطلب لى فنجان القهوة «السادة» كما تعود منذ سنوات طوال فور جلوسى أمامه، وإنما قال لى فى صوت حاد: «الرئيس سيرفع عليك قضية فى محكمة الجنايات بتهمة إهانة حاكم دولة صديقة هو العاهل السعودى الملك فهد بن عبد العزيز».

كان ذلك التهديد إحدى الجمل الدرامية المثيرة فى قضية شغلت الرأى العام.. فجرتها قبل عدة شهور فى روز اليوسف.. وعرفت بـ « فضيحة على النيل».

فى صباح يوم الاثنين 25 نوفمبر 1996 رحت احتسى فنجانا من القهوة على مائدة وحيد حامد الذى اتخذ من كافيتريا فندق ميرديان القاهرة مكتبا دائما له.. يكتب فيه سيناريوهات أفلامه.. ويستقبل زواره.. ويدير أعماله.

تعودت على شرب القهوة معه فى ذلك الموعد من كل أسبوع وتبادل الأفكار والأخبار معه قبل أن أبدأ تجهيز العدد الجديد من روز اليوسف التى كنت مسئولا عن تحريرها.

فى ذلك اليوم سمعت من موظفى الفندق ما يمس رجل أعمال سعودى شهير وثيق الصلة بالملك فهد.. وفنانة شقراء شابة.. وقيادة فى ماسبيرو.. اتهمت بتلقى سيارة مرسيدس من الشيخ مقابل السكوت على إهمال الفنانة فى تصوير مسلسل ينتج تحت إشرافه.

ولم تمر سوى عدة أيام حتى حصلت على مستند يثبت الفضيحة.

المستند صادر من الشركة الوطنية للسيارات (ناتكو شركة مساهمة مصرية معرض القاهرة).. عبارة عن إيصال يحمل رقم (2883) خاص بتوريد شيك.. بتاريخ 17 اكتوبر 1996.

«استلمت من معالى الشيخ......... مبلغ 482000 (فقط أربعمائة واثنان وثمانون ألف جنية).. شيك رقم 3799 حق 17 أكتوبر 1996 على بنك القاهرة فرع ثروت.. وذلك قيمة سيارة 200 ت موديل 96 هدية للأستاذ/....... حسب الاتفاق والمواصفات».

ترددت كثيرا فى نشر القصة.. كنت واثقا أنها لن تحرق متلقى السيارة وحده وإنما ستثير غضب صفوت الشريف الرجل القوى فى النظام.. المحرك العلنى والخفى لكل ما يحدث فى ماسبيرو.. كما أن الصحافة فى ذلك الوقت لم تكن قد وصلت إلى مستوى الجرأة التى يمكن عندها فضح الكبار.. مما يحرض كل أفواج الذئاب الشرسة ضدى.. وهو ما حدث بالفعل فيما بعد.

سافرت إلى شرم الشيخ بالسيارة.. رحت طوال الطريق أتأمل الكون فى استيعاب صوفى جعلنى أندمج فيما حولى.. ليست النجوم متشابهة.. ولا الجبال متساوية.. والبحر يفرض ألوانه كما يشاء.. والخضرة قادرة على فرض إرادتها على الصحراء مهما كان الجفاف والعطش.. وعلى تلك الرمال التى لاتنتهى عاش أنبياء وحارب جنرالات ودفن شهداء قتلوا فى سبيل فكرة أو كلمة أو جرأة.

أحسست ما فى قلبى من كلام مكتوم يجب أن يخرج وحالة الخوف يجب أن تتوارى والفضيحة التى جرت على النيل يجب أن تدوى.. وبالفعل.. ما أن دخلت جناحى فى فندق موفنبيك وكان على بابه اسم الرئيس الروسى السابق بوريس يلتسين حتى وجدتنى أكتب ما عرفت تحت عنوان «فضيحة على النيل».. دون ذكر الأسماء.. ورغم أن المنطقة كانت تعانى من آثار سيول عارمة دمرت الكثير من الخدمات فى جنوب سيناء فإن فاكس الفندق كان جاهزا لإرسال المقال إلى روز اليوسف.

كان صفوت الشريف فى دمشق يحضر اجتماع وزراء إعلام الدول الإسلامية.. وما أن هبط مطار القاهرة حتى وجد فى انتظاره أحد مساعديه.. هو الدكتور مصطفى حجاج الذى لخص له ما نشر.. وفى السيارة التى حملته إلى بيته وجد مظروفا من الموظف المتهم فيه مذكرة يشرح فيها ملابسات الحصول على السيارة.

فى اليوم التالى طلبنى الشريف تليفونيا فى وجود وحيد حامد بجواره قائلا: «لو كنت متصور أن من كتبت عنه سيأتى أمينا عاما لاتحاد الإذاعة والتليفزيون فأنت مخطئ.. سأحقق فيما نشرت عنه.. وكل مخطئ سينال عقابه».. وكان ردى: «أنا صاحب رأى ولست صاحب قرار.. ولو كنت صاحب قرار لنلت ممن هم أكبر من الموظف المتهم».. وفهم الشريف الرسالة فخفض من حدة صوته.

بعد أيام قليلة تضاعف صدى الفضيحة بتعليقات حادة من كبار كتاب افتتاحيات الصحف وصفحات الرأى.. كتب سعيد سنبل فى الأخبار تحت عنوان «صباح الخير» يوم الأحد 9 ديسمبر 1996 يطالب الحكومة بالتحقيق فى الفضيحة التى أصبحت حديث الناس فى مصر بعد ساعات من نشرها.. وبعد ثلاثة أيام نشر ثروت أباظة مقالا فى «الأهرام» يطالب بالكشف عن أبطال الفضيحة.. وبعد ثلاثة أيام أخرى نشر جمال بدوى افتتاحية «الوفد» التى يرأس تحريرها بعنوان «لله يا مرسيدس».

ونشرت «أخبار اليوم» مواجهة بينى وبين الموظف المتهم الذى كشف عن نفسه بتقديم بلاغ ضدى إلى نيابة أمن الدولة العليا التى كانت مسئولة عن قضايا النشر.. بل.. أكثر من ذلك تحدث إلى مجلة «الشباب» متهما صفوت الشريف بالتحريض على نشر الفضيحة خشية أن يأتى مكانه وزيرا للإعلام.. وكان ذلك التصور ساذجا.. فقد كان الشريف أكثر المدافعين عنه.. وأكثر المضارين بما نشر.. فقد استخدم خصومه فى السلطة وأهمهم رئيس الحكومة كمال الجنزورى ورءوف المناوى مسئول الإعلام فى وزارة الداخلية الطامح إلى منصب وزير الإعلام ما نشر فى توجيه ضربات متتالية إليه جعلت الرئيس يعنفه بشدة.. وإن لم يقله من منصبه.. بل.. أكثر من ذلك طلب منى أسامة الباز أن أكف عن الهجوم عليه قائلا: «صفوت سيظل فى مكانه لن يستغنوا عنه».. «ده الشديد القوى».

فرضت الفضيحة نفسها على اجتماعات مجلس الوزراء.. وجرى حوار بين الجنزورى والشريف.. انتهى بتعيين عبد الرحمن حافظ أمينا عاما لمجلس اتحاد الإذاعة والتليفزيون.. وإحالة القضية إلى النيابة الإدارية التى حققت الواقعة وأحالت المتهم إلى المحكمة الإدارية التى وصفت ما فعل بوصف فريد من نوعه.. لم يتضمنه حكم من قبل.

حقق معى فى البلاغ المقدم ضدى المستشار على الهوارى وحاول متهم ماسبيرو أن يلصق بى جريمة الانتقام منه بالادعاء أنه رفض إنتاج فيلم تليفزيونى عن كتابى «الموساد واغتيال المشد» عن حادث قتل عالم الذرة المصرى الدكتور يحيى المشد فى باريس بتدبير من المخابرات الإسرائيلية.. ولكن.. ذلك الادعاء خاب بعد أن قدمت عقد بيع القصة إلى المخرج السينمائى منير راضى قبل نشر الفضيحة بشهور طويلة.

وفوجئت بمكالمات تليفونية ليلية.. تسب.. وتهدد.. بما لا يليق.. وعرفت أن وراءها موظفاً يعمل لدى الثرى السعودى.. فذهبت إلى وحيد حامد فى فندق ميرديان وطلبت منه أن يحضره ليسمع منى ما لم يتوقع.

قال فى سخرية مثيرة للغضب: «أسامة وعدنا بأنك لن تأتى بسيرة رجلنا السعودى فى روز اليوسف».

رغم أننى عرفت من هو أسامة الذى يقصده فإننى سألت: «أسامة مين؟».

فقال فى تفاخر: «أسامة الباز».

قلت وقد وصل الغضب إلى ذروته: «أسامة الباز بيلعب معاكم فى الحارة.. أنت تتحدث عن مستشار الرئيس.. تعامل مع الشخصية باحترام أكثر».

واضفت وقد استرددت هدوئى: «أنا أعرف أنكم وراء التليفونات الليلية المسيئة التى اتلقاها فى بيتى ووراء التهديدات التى تستهدف عائلتى.. وإذا لم تكفوا عن ذلك فسوف أشد الملك فهد من رأسه وليكن ما يكن».

ضحك الموظف الخليط من أم مصرية وأب سعودى وكأنه لا يصدق تهديداتى.. وقررت أن أنفذ تهديدى بنشر كتاب عن تجاوزات الملك فهد وآخر ابنائه عبد العزيز.. مستخدما الفضيحة غطاء.. مدركا أن الرئيس سوف يتدخل.. وساعتها سأطلب منه حماية عائلتى بعد أن عجز عن ذلك كل من لجأت لهم من كبار رجال الدولة.. مثل أسامة الباز.. وكمال الجنزورى.. وصفوت الشريف.. ووزير الداخلية حسن الألفى الذى اعتبر شكواى بلاغا فأحاله إلى مدير مباحث العاصمة اللواء محمود وجدى.. وبعد أيام سمعت منه: إنهم قبضوا على بلطجى اسمه محسن بالقرب من بيتى وهو يحمل مياه نار.

لم تكن المواقف القانونية قد حسمت بعد عندما سافرت إلى الساحل الشمالى ومكثت هناك عشرة أيام انتهيت فيها من الكتاب الذى حمل نفس عنوان المقال «فضيحة على النيل».. وطبعت من الكتاب ثلاثة آلاف نسخة.. طرحت ألفا منها فى الأسواق.. بيعت فى ساعات.. واحتفظت بباقى النسخ فى مخازن الناشر.. وما أن صدر الكتاب حتى نقلته السفارة السعودية فى القاهرة عبر الفاكس إلى القصر الملكى فى الرياض.. وفى تلك اللحظة بدأت الأزمة التى توقعتها بين البلدين والتى كلف أسامة الباز لعلاقة الصداقة المتينة بيننا بحلها.. وإن بدأ بتهديد الرئيس بإحالتى إلى محكمة الجنايات بتهمة إهانة رئيس دولة صديقة هو الملك فهد.

سمعت التهديد فقلت بهدوء: «لو رفع الرئيس ضدى قضية فإنه سيحقق لى شهرة لن أحصل عليها إلا بعد سنوات طوال من العمل الشاق.. فشكرا له».

وأضفت: «لكن.. لا تنسى يا دكتور أن الرئيس بمثل هذه القضية سيفتح باب جهنم عليه.. سيطالبه رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو بأن يعامله بالمثل ويقاضى الصحفيين والكتاب الذين لا يكفون عن الهجوم عليه».

واستطردت: اسمعنى يا دكتور.. فى مصر ثقافة غريبة.. لا تلجأ إلى الوقاية إلا بعد أن يموت كثير من الضحايا.. إننا لا نضع إشارة مرور فى تقاطع ما إلا بعد أن يموت العديد فى حوادث متكررة.. وأنا لست مستعدا أن أكون ضحية أو أن أفقد أحدا من عائلتى الصغيرة ولو أعدم المجرم فيما بعد.. لقد استنجدت بك وبرئيس الحكومة وبوزير الإعلام ووزير الداخلية.. لكن لا حياة فيمن تنادى.

لم يكن أمامى أسامة الباز الذى عرفته منذ سنوات طويلة.. وخطر ببالى أن حوارنا يمكن أن يسمعه الرئيس.. وربما.. نقلت الكاميرات صورتنا.. فقمت من مكانى وجلست على المقعد الآخر أمام مكتبه.. فإذا به ينزعج.. ويدعى أن فقرات الرقبة تؤلمه.. ولا يستطيع أن يغير وضعه.. وأدركت أن ما جاء ببالى صحيح.. وأنا الرئيس ثالثنا فى هذا الحوار فرحت أتكلم إليه مباشرة.

قلت: لقد علمتنا يا دكتور أن من لا يملك أوراقا قوية لا يجلس على مائدة التفاوض.. والكتاب الذى نشرته يجسد ما لدى من أوراق ضغط.. إن ما طرح فى المخازن أكبر مما طرح فى الأسواق.. وسوف أعدم ما تحت يدى من نسخ إذا ما وافقت على شروطى.. فإن لم توافق فسوف أوزعها مجانا فى مؤتمر صحفى يحضره المراسلون الأجانب.

كانت مطالبى محددة.. أن تصلنى رسالة من الرئيس يؤكد فيها حمايتى ممن يتربصون بى وبعائلتى.. وأن تسحب القضايا الثلاثين التى رفعت ضدى دون مبرر من باب الانتقام.. وألا يستفيد أحد ممن هددونى بمكسب مادى مهما كان مصدره.

وطلب أسامة الباز ثلاثة أيام مهلة لمراجعة الرئيس.. لكن.. بعد ساعات طلبنى تليفونيا ليقول: إن شروطى أجيبت.. ولكن.. فيما بعد.. ثبت أن سلطة المصالح أقوى من سلطة الرئيس.. فقد استمرت الحملة الشرسة ضدى.. من جهات داخلية وخارجية.

وفيما بعد أيضا.. وضعتنى القضية نفسها وجها لوجه مرة أخرى أمام أسامة الباز.. نكشف عنه العدد القادم.