عادل حمودة يكتب: حيثيات إعدام البشير!

مقالات الرأي



■ هرب من جوهانسبرج فى سيارة مصفحة وأقلعت طائرته سرا من مطار عسكرى فى قاعدة ووتر كلوف

■ حرب أهلية استمرت 15 سنة انتهت بانفصال الجنوب.. قتل 200 ألف شخص فى دارفور.. وشرد مليونين غيرهم

■ استضاف أسامة بن لادن فى بلاده وهرّب السلاح إلى الإرهابيين فى مصر.. ودبّر محاولة اغتيال رئيس مصرى.. وأفسد العلاقة بين القاهرة وأديس أبابا!

أدفع ما تبقى من عمرى وأعرف ما شعر به عمر البشير وهو يتلقى نبأ توقيفه فى جنوب إفريقيا تمهيدا لإحالته إلى المحكمة الجنائية الدولية.. هل انقلب الأسد إلى أرنب؟.. هل فقد الطاووس ريشه وتفتت جناحه وسقط من قمة زهوه وغروره؟.. هل احتاج إلى كونسلتو أطباء لعلاجه من اضطراب فى القلب.. أو ارتفاع فى ضغط الدم.. أو اضطراب فى الجهاز الهضمى أدى إلى بقائه فى حمام جناحه فى فندق إنتركونتيننتال جوهانسبرج بالساعات؟

تمنيت أن يشعر ذلك السفاح بمشاعر الرعب التى فرضها على شعبه فى مناطق السودان المختلفة وعلى رأسها دارفور التى قتل فيها 200 ألف شخص وشرد مليونين من أهلها بعد هدم قراهم الفقيرة وحرق مساكنهم المتواضعة.. مما أفقده حصانة الرئيس.. ومنحه لقب مجرم.. مطلوب للعدالة الدولية لارتكابه خمس جرائم حرب ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.

وتمتلك المحكمة الجنائية سلطة توجيه الاتهام لمسئولى الدول الأعضاء المصدقين على اتفاقية إنشائها فى روما.. ويمتلك مجلس الأمن هذا الحق فى توجيه الاتهام ضد مسئولى الدول غير الأعضاء.. وهو ما حدث مع الرئيس السودانى.

ويحق للدول الأعضاء فى المحكمة تنفيذ أحكامها.. ويفسر ذلك قيام محكمة فى جنوب إفريقيا بإصدار مذكرة توقيف للبشير خلال وجوده فى جوهانسبرج مشاركا فى القمة الإفريقية الأخيرة.. مما أدخل الرعب فى قلبه.. وبدا فى موقف مهين.. لا يحسد عليه.. وإن وصف المتحدث باسمه الحكم بـ«فرقعة إعلامية».

لكن.. حكومة جنوب إفريقيا رفضت القبض عليه.. مما وضعها فى أزمة قانونية حادة ــ تهدد بسقوطها ــ مع السلطة القضائية.. فتركه يهرب من البلاد يعد انتهاكا دستوريا صارخا لدولة ديمقراطية.. تنافس مصر على عضوية مجلس الأمن.

وقد تسلل البشير هاربا بعد أن راح يجرى اتصالات استمرت ساعات لوضع خطة النجاة.. أعلن أنه سيحضر الجلسة الختامية.. لكن.. ذلك كان نوعا من التمويه والخداع.. فقد ركب سيارة مصفحة أقلته من باب جانبى للفندق إلى قاعدة ووتر كلوف العسكرية.. حيث أقلعت طائرته من هناك بعد استئذان ثلاث دول مصدقة على عضوية المحكمة الجنائية.. ستمر فى أجوائها طائرته.. منها زامبيا وموزامبيق.. بجانب ثلاث دول أخرى لم يشك فى تصرفاتها فلم تراجع قبل الإقلاع.

وما أن هبطت طائرته فى مطار الخرطوم حتى خرج إلى مستقبيله بملابسه الشعبية البيضاء رافعا عصاه وهو يهتف «الله أكبر».. لكن.. بالقطع.. كان الموقف فى داخله مختلفا تماما.. فقد كان بينه وبين السجن والفضيحة خطوات معدودة.

لقد أصدر المدعى العام للمحكمة الجنائية لويس مورينو أوكامبو مذكرة اعتقاله فى 14 يوليو 2008 تبعتها مذكرة أخرى بالقبض عليه «حيا أو ميتا» فى 14 مايو 2009.. ومنذ ذلك الوقت والبشير يخشى السفر خارج بلاده إلا بعد التأكد من الدول المضيفة أنها لن تسلمه.. واقتصرت هذه الدول على مصر والسعودية.. ورفضت أندونيسا استقباله.. وتعمدت الولايات المتحدة عدم منحه تأشيرة دخول لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى عام 2013 رغم أنها غير موقعة على اتفاقية المحكمة الجنائية.. وحذت إسرائيل والصين والهند حذوها خوفا من العقاب بسبب حدة التجاوزات التى قامت بها.

أما مصر فقد وقعت على الاتفاقية.. لكنها.. لم تصدق عليها.. فقد اقترحت اللجنة القانونية التى شكلها نبيل العربى عندما كان وزيرا للخارجية بعد ثورة يناير ــ تأجيل التصديق حتى يشكل برلمان جديد يتولى المهمة.. على أن ذلك البرلمان لم يملك الوقت.. فقد حل بقرار من المحكمة الدستورية.

أما الاتفاقية نفسها فقد أعلنت فى أول يوليو 2002 وبعد عشر سنوات وصل عدد الدول الموقعين عليها إلى 121 دولة.. صدق عليها منها 111 دولة.. عليها أن تقبض على البشير إذا ما وصل أراضيها.. أو حلق فى سمائها.

ولو كانت المحكمة الجنائية تحاسب المسئولين على جرائمهم قبل إنشائها لتضاعفت الجرائم التى يحاسب عليها البشير.

لقد قام البشير ــ المولود فى أول يناير 1944 ــ بانقلاب عسكرى فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى على حكومة الأحزاب الديمقراطية التى كان يرأسها الصادق المهدى.. وسرعان ما تحالف مع التنظيمات الدينية والمؤتمر الشعبى الإسلامى الذى كان يرأسه حسن الترابى.. ودفع ذلك التحالف السودان إلى حرب أهلية طويلة ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان التى كان يقودها جون جرنج.. انتهت فى عام 2005 باتفاق نيفاشا الذى أقر استفتاء يحدد مصير الجنوب.. انتهى بانفصاله عن الشمال.. مسجلا أول تقسيم لدولة عربية.

لكنه.. سرعان ما انقلب على الترابى ووضعه فى السجن قيد الاعتقال.. فخيانة الحلفاء طابع فى ذلك الطراز من الحكام.

والأسوأ.. أن البشير زرع فى جسد المنطقة بذور الشر التى أثمرت تطرفا وإرهابا وعنفا وطائفية.. فهو الذى استضاف أسامة بن لادن على أطراف الخرطوم.. وفتح حدود بلاده لتهريب السلاح إلى مصر.. ونقل فرق الموت عبر الحدود إلى أثيوبيا لتدبير عملية اغتيال مبارك فى عام 1995.. ورغم نجاته فإن ما حدث أفسد العلاقة بين القاهرة وأديس أبابا.

وعلى عرش من الجماجم تربع البشير 26 سنة على حكم السودان مزورا انتخابات رئاسية صاغها فى نصوص مسرحية.. حيث وضع أمامه خمسة منافسين مجهولين.. لعبوا دور الكومبارس.. وقبضوا أتعابهم وراء الكواليس.

وحسب تقرير أخير لمركز سترافورد (مركز بحث خاص ترعاه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية) فإنه ليس متوقعا القبض على البشير فى وقت قريب.. لكن.. من المؤكد أن ما جرى له فى جنوب إفريقيا سيلقى بظلاله على السودان لتغيير وضعه الإقليمى والإفريقى.

فى الوقت الذى بدت فيه السعودية وقد أمنت السودان ليكون تابعا لها فإن الغرب ينظر إليه باعتباره دولة منبوذة دوليا بسبب تعاونه مع إيران فى تهريب السلاح إلى حماس بجانب منظمات غير شرعية منذ أن كانت مركزا لنشاط القاعدة منذ بداية التسعينيات.

وقبيل عاصفة الحزم نجحت السعودية فى إبعاد السودان عن إيران تمهيدا لقطع علاقته بدول محور الشر وبدء مسار جديد نحو إعادة تأهيله.

ويتذكر الغرب أن السودان ساعد فى تحرير رهائن أمريكيين من متمردين إريتريين بجانب تعاون أمنى سابق بين الخرطوم وواشنطن ولكن سجل البشير السيئ فى مجال حقوق الإنسان يستبعد تقوية العلاقات المباشرة بين العاصمتين.. خاصة فى ظل اتهام السودان بالتورط فى الحرب الأهلية فى دولة الجنوب.. وإن لا ينفى ذلك رغبة عدد من المسئولين الأمريكيين فى زيارة السودان.

إن ما جرى للبشير يؤكد أن المحكمة الجنائية يمكن أن تلعب دورا عمليا فى الجغرافيا السياسية.. فقد حد اتهام البشير بالجرائم المنسوبة إليه من علاقات بلاده الإقليمية والدولية.. وحد من دخول بلاده فى مفاوضات مباشرة وشخصية معه.

ولا شك أن البشير عاد إلى بلاده وهو يشعر بانكسار أمام مواطنيه مما يزيد من الضغوط الداخلية على حكومته.. فالمعارضة سوف تعتبر مذكرة اتهامه عقبة شديدة أمام علاقات السودان الدبلوماسية.

إن ما جرى يوم 14 يونيو 2014 ــ يوم الحكم باعتقال البشير فى جنوب إفريقيا ــ يوم انقلابى فى العلاقات الدولية.. فى ذلك اليوم سقطت حصانات الرئيس وبدا وكأنه مجرد مجرم مطلوب دوليا.. وقد حدث هذا التأثير برغم ضعف المحكمة الجنائية فكيف يكون الموقف لو قويت هذه المحكمة؟