د. أحمد يونس يكتب: أنا عملت فيك إيه يا ظالم عشان تحررنى؟
صـدق أو لا تصدق. لن يغير هذا من الواقع شيئاً، إلا إذا أضفنا إليه من نملية الخرافات كمـية كـبيرة من توابل أحــلام اليقظة بأثــر رجعى، كما أسمى أنا طريقـتنا فى تـنـاول التاريخ.
تجار القاهــرة احتفالاً بصد التتار، علقوا اللافتات لاستقبال السلطان قطز بعد موقعة عين جالوت: اللهم احفظ مولانا السلطان الظافر. لكن بيبارس قتله أثناء العودة من ساحة القتال. فـمـا كان من تجــار القاهرة سوى أن شطبوا حرف الفاء ليضعوا بدلاً منه حرف الهاء: اللهم احفظ مولانا السلطان الظاهر.
خلال الربع الثانى من القرن التاسع عشر، جاء فــى زيارة لمــصر كـاتب أوروبى، يدعى: جيرار دى نيرفال. كتابه الأشهر هـو: رحلة إلى الشرق. ومن بين عناوينه الداخلية: امرأة من القاهرة.
المهم أن المسيو جيرار دى نيرفال بمجرد قدومه إلى مــصر، أحضر له أولاد الحلال جارية مليحة تقوم على خدمته اسمها: زينب. وذات يوم استدعى جيرار دى نيرفال جاريته ليفاجئها قــائلاً: أنا يا زيـنـب قـررت أحررك. فــإذا بها تفقع بالصوت الحيانى: تحررنى يعنى إيه؟ عايزنى أفضل فى الدنيا مطلوقة كده من غير صاحب زى كلاب السكك؟ لو عـمـلت حـاجـة غلط، جوعنى، اضــربنى، عـلقـنى من شـعـرى فـى السـقـف. بس ما تقلعنيش من رجلك وترمينى كده زى البرطوشة القديمة. عايزك يا زينب تبقى حرة نفسك. يعنى إيه حرة نفسى دى؟ أنا عملت فيك إيه يا ظالم عشان تحررني؟ تكونشى فيه جارية تانية مخيشة فـى نافوخك؟ هـو أنا ما بانضفش البيت كويس؟ مـش كده خالص يا زيـنـب. إنتى الشهادة لله بتخلى البيت زى الفل. أمال إيه؟ ما بتحبش أكلي؟ لأ يا زيـنـب. إنتى أكلك فى الحقيقة لا يعلى عليه. شكلى مـداخل مزاجك؟ بالعكس يا زيـنـب. إنتى زى القمر. وعلى إثر فاصل عنيف من اللطم على الخدود وتمزيق الشـعـر وشق الهدوم، اضطر المسيو دى نيرفال إلى أن يقول لينهى الموقف: خلاص يا زينب. قلبك أبيض. أوعدك ما اجيبش قدامك سيرة الحرية الزفت دى تانى.
فى قاموس زينب لا وجود لكلمة: أريد. زينب لا تريد.بل إن تركيبتها الذهنية خالية هى الأخرى من هذا المفهوم. إنها ابنة الثقافة التى لا تعترف بأن الإنسان من حقه أن يريد.
المصيبة أن البعض فــى مــصر ، مـازالوا يتعاملون مع الواقع أو القرارات المصيرية بعقلية زيـنـب التى تكره حتى مجرد إمكانية أن تتحرر. هناك حـتى بعد ثورتى 25 يناير أو 30 يونيو مـن لا يستطيعون العيش بدون سيد، فضلاً عن حالة الرعب الهيستيرى التى تستبد بالكثيرين لمجرد أن تأتى على لسان أحــد سيرة "الحرية الزفت دى." زينب لم تعد مجرد جارية كتب عنها جيرار دى نيرفال. أصبحت طريقة فى التفكير. الجوارى لسن بالضرورة من الإناث فقط. بعض الذكور فى هذه المنطــقة من العالم لا يتخيلون الحياة إلا كالجوارى.
أجمل ما فــى ثورة 25 يناير هو أنهــا كتبت على السطــر الأول من تاريخــها: الشـعــب "يريد." أى نعم، لم تتحقق حتى هذه اللحظــة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. لكننا على الأقل تعلمنا كــلمـة: نريد.
ولم يكن الشعب المصرى قد اعتاد فى الماضى أن يريد أو لا يريد. الغزاة أو أنظمة الحكم يتعاقبون علينا كفصول السنة التى لا يد لنا فيها. إقطاع بلون القرون الوسطى. اشتراكية على نحــو ما. ثم رأسمالية متوحشة، لتسرق السلطة فى غــفلة من الزمن جماعة أشباح المقابر.
الكارثة تكمن فى سيكولوجية الجوارى التى لا تفرق بين الإناث والذكور. كيف نتحرر من كـــل الذين لا يريدون لنا أن نريد؟!