من أسرار القرآن
".. ومن دخله كان آمنا.." " آل عمران:97"
في تفسير هذا النص القرآني الكريم ذكر ابن كثير ـ رحمه الله ما نصه: وقوله ـ تعالي ـ:.. ومن دخله كان آمنا.. يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية, كما قال الحسن البصري وغيره: كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم, فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتي يخرج.
وعن ابن عباس قال: من عاذ بالبيت أعاذه البيت, ولكن لايؤوي ولا يطعم, ولا يسقي, فإذا خرج أخذ بذنبه, وقال ـ تعالي: ـ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وقال ـ تعالي ـ: فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وحتي إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها,
كما ثبتت الأحاديث والآثار في ذلك, ففي الصحيحين ـ واللفظ لمسلم ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم فتح مكة: لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا, وقال: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض, فهو حرام بحرمة الله الي يوم القيامة, وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي, ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار, فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة:
لا يعضد شوكه, ولا ينفر صيده, ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها, ولا يختلي خلاه فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال: إلا الإذخر, وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلي مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قال به رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ الغد من يوم الفتح, سمعته أذناي, ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به:
إنه حمد الله وأثني عليه ثم قال: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما, أو يعضد بها شجرة فإن أحدا ترخص بقتال رسول الله فيها فقولوا له: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم, وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة ـ أي سرقة إبل.
وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول: لايحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة وعن عبد الله بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول وهو واقف بالحرورة بسوق مكة: والله إنك لخير أرض الله, وأحب أرض الله إلي الله, ولولا أني أخرجت منك ما خرجت.
وأضاف ابن كثير في نهاية هذه التطوافة المباركة قوله: وقال بعضهم في قوله ـ تعالي ـ:.. ومن دخله كان آمنا.. قال: آمنا من النار( وهذا بعد بالمعني عن الأمن الدنيوي الذي هو واضح القصد من النص) ولم يزد بقية المفسرين علي هذا التفصيل شيئا يستحق تكراره هنا.
من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم:
من معاني هذا النص القرآني الكريم الذي يقول فيه ربنا ـ تبارك وتعالي: ـ
.. ومن دخله كان آمنا..( آل عمران:97)
التأكيد علي أمن من دخل إلى الحرم المكي علي اتساع مساحته, فكل من دخل في هذا الحرم صار آمنا علي نفسه, مطمئنا علي ماله ولو كان مطلوبا للثأر ولاذ به, كان ذلك في الجاهلية من بقايا إجلال الناس هذا المكان الذي كرمه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ وفضله علي جميع بقاع الأرض وجعله أشرفها علي الإطلاق متبوعا في هذه الحرمة بالمدينة المنورة ثم بمدينة القدس( فك الله إسارها وإسار جميع ارض فلسطين وباقي أراضي المسلمين من أيدي المحتلين لها اللهم آمين يارب العالمين)
وفي أثناء الفتح الإسلامي لمكة المكرمة أمر رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بمناد ينادي: من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل داره فهو آمن, ومن دخل دار ابي سفيان فهو آمن.
أما اليوم فمن اقترف في الحرم المكي جرما من جرائم الحدود أقيم عليه الحد والأمن في الحرم المكي ليس للإنسان فقط بل هو أيضا للحيوان والنبات فقد حرم رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن يعضد شوكه أو يقلع حشيشه أو يقطع شجره أو ينفر صيده.
وقد لاحظ المراقبون أن الحيوانات الضاربة لا تصطرع في الحرم المكي ولايؤذي بعضها بعضا بل تخالط من الحيوانات ما تعودت علي افتراسه خارج الحرم المكي ولا تتعرض له فيه أبدا بأذى.
ويروي لنا التاريخ أن كل جبار قصد الحرم المكي بسوء أهلكه الله, ولم يمكنه من ذلك كما حدث مع أصحاب الفيل وربنا ـ تبارك وتعالي ـ يقرر حمايته لبيته العتيق بقوله ـ عز من قائل: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم"(الحج:25)
وتفسيرا لهذا الوعد الإلهي قال المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم: ـ ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة( أخرجه الشيخان في صحيحيهما)
وقال صلي الله عليه وسلم: ـ لن تغزي مكة بعد هذا العام أبدا( أخرجه الإمام احمد في مسنده)
بعض الشواهد العلمية علي أمن الحرم المكي:
أولا: حماية مكة المكرمة من الهزات الأرضية والثورات البركانية:
علي الرغم من انفتاح قاع البحر الأحمر بخسوف أرضية عميقة واتساع هذا القاع بمعدل1 ـ3 سنتيمترات في كل سنة( تقاس عند باب المندب) وعلي الرغم من تحرك الجزيرة العربية ككل في الاتجاه الشمالي الشرقي ـ أي في عكس اتجاه عقرب الساعة ـ متباعدة عن القارة الأفريقية وعلي الرغم من السجلات الزلزالية المدونة والثورات البركانية العنيفة التي تركت طفوحا هائلة من الحمم والرماد البركاني في منطقة تهامة والحجاز قديما وحديثا والتي تقدر بنحو2586 حدثا زلزاليا( بقدر يتراوح من3,1 إلي6,7 درجة) خلال الفترة من سنة627 م إلي1989 م, وما تلي ذلك من زلازل حتي اليوم تجاوز قدر أعلاها 6 درجات علي مقياس ريختر
وامتدت من اليمن جنوبا( مثل الزلزال الذي حدث في1982/12/13 م) إلي زلازل خليج العقبة شمالا فلم تسجل هزة أرضية عنيفة في الحرم المكي كله الممتد من وادي الشميسي غربا( علي بعد15 كم من مكة المكرمة) إلى الجعرانة شرقا( علي بعد16 كم) ومن أضاه جنوبا( علي بعد12 كم) إلي التنعيم شمالا( علي بعد6 كم) والي وادي نخلة في الشمال الشرقي من مكة المكرمة( علي بعد14 كم)
أي في منطقة تقدر مساحتها بنحو ستمائة كيلو متر مربع وذلك علي الرغم من وقوع زلزال مروع في المدينة المنورة سنة1256 م صاحبته ثورة بركانية عنيفة وعلي الرغم من وجود أكثر من تسعين ألف كيلو متر مربع من الطفوح البركانية وآلاف الفوهات البركانية علي طول أرض الحجاز.
ثانيا: إثبات توسط مكة المكرمة لليابسة:
في دراسة علمية دقيقة لتحديد اتجاهات القبلة من المدن الرئيسية في العالم أثبت الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين تمركز مكة المكرمة في قلب دائرة تمر بأطراف جميع القارات, أي أن اليابسة موزعة حول مكة المكرمة توزعا منتظما واستنتج من ذلك أن هذه المدينة المباركة تعتبر مركزا لليابسة وهي تنفرد بذلك عن جميع بقاع اليابسة.
ثالثا: انتفاء الانحراف المغناطيسي علي مسار خط طول مكة المكرمة:
كذلك أثبت هذا العالم المصري الجليل ـ الذي نسأل الله تعالي له الرحمات ـ أن الأماكن التي تشترك مع مكة المكرمة في نفس خط الطول(39,817 درجة شرقا) تقع جميعها في الإسقاط الذي قام به علي خط مستقيم هو خط الشمال ـ الجنوب الجغرافي, بمعني انعدام الانحراف المغناطيسي علي طول هذا الخط, مع وجوده علي باقي خطوط الطول الأخرى
وهي ميزة ينفرد بها خط طول مكة المكرمة.
هذه الخصوصية لا( ولم) تمنع تعرض تلك الأرض المباركة لبعض الهزات الأرضية الخفيفة ولعدد من التغيرات المناخية التي تسبب هطول الأمطار الموسمية بغزارة علي ندرة حدوث ذلك, وقد تصاحب هذه الأمطار الغزيرة بالسيول الجارفة التي طاف فيها بعض الطائفين حول الكعبة المشرفة سباحة.
بعض الشواهد القرآنية علي كرامة الحرم المكي:
* في عشرات الآيات يقابل القرآن الكريم الأرض ـ علي ضآلتها النسبية ـ بالسماء ـ علي اتساعها المذهل وهذه المقابلة لابد أنها متعلقة بوضع خاص للأرض بالنسبة الي السماء.
* يذكر القرآن الكريم تعبير السماوات والأرض وما بينهما في عشرين آية قرآنية صريحة, وهذه البينية لا تتم إلا إذا كانت الأرض في مركز السماوات اي في مركز الكون.
* كذلك يؤكد مركزية الأرض من الكون قول الحق ـ تبارك وتعالي ـ في سورة الرحمن: "يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان" ( الرحمن:33)
وذلك لأن قطر أي شكل هندسي هو الخط الواصل بين طرفيه مرورا بمركزه فإذا انطبقت أقطار السماوات ـ مع ضخامتها ـ مع أقطار الأرض ـ علي ضآلتها النسبية ـ فلابد وأن تكون الأرض في مركز السماوات.
ـ إثبات الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ توسط مكة المكرمة لليابسة, وإثبات وجود الأرضين السبع كلها في أرضنا انطلاقا من دراسة نتائج الهزات الزلزالية الطبيعية والصناعية ومن أقوال سيد المرسلين ـ عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم ـ التي منها أقواله الشريفة: من أخذ شيئا من الأرض بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين ( رواه البخاري).
كل ذلك يؤكد لنا أن الأرض في مركز الكون وأن الكعبة المشرفة في مركز الأرض الأولي ومن دونها ست أرضين ومن حولها سبع سماوات والكعبة تحت البيت المعمور مباشرة وهو كعبة الملائكة.
هذا الموقع المتميز للحرم المكي أعطاه من الشرف والكرامة والبركة والعناية الإلهية ما جعل من الوصف القرآني في قول ربنا ـ تبارك وتعالي: ـ.. ومن دخله كان آمنا.. حقيقة مدركة ملموسة لأنه دخل في أمان الله وظل عرشه وهل يمكن ان يضام من نال شرف الوجود في هذا المكان؟
من هنا كان اختيار الحرم المكي ليكون أول بيت وضع للناس علي الأرض وأول بيت عبد الله ـ تعالي ـ فيه علي الأرض وجعله قبلة للمسلمين, ومقصدا لحجهم واعتمارهم, وجعل الصلاة فيه بمائة ألف صلاة والحسنة فيه بمائة ألف حسنة, لذلك قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في حق مكة المكرمة عشرات الأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد خصوصية المكان, ومكانته عند الله ـ سبحانه وتعالي ـ ومنها:
* هذا البيت دعامة الإسلام من خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر كان مضمونا علي الله إن قبضه أن يدخله الجنة, وإن رده أن يرده بأجر وغنيمة.
فسبحان الذي اختار مكة المكرمة موقعا لأول بيت عبد فيه في الأرض, واختاره بهذه المركزية من الكون وغمره بالكرامات والبركات وقرر أن من دخله كان آمنا, وهذه حقائق ما كان للإنسان أن يدركها لولا نزول القرآن الكريم, وحفظه بلغة وحيه بحفظ الرحمن الرحيم, فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة مكة المكرمة, والحمد لله علي نعمة القرآن الكريم, والحمد لله علي بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين الذي قال فيه ربه ـ تبارك وتعالي ـ: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلي الله بإذنه وسراجا منيرا"( الأحزاب:46,45)
فصل اللهم وسلم وبارك عليه, وعلي آله وصحبه, ومن تبع هداه, ودعا بدعوته إلى يوم الدين, والحمد لله رب العالمين.