التحدي فى إحياء العظام وهى رميم
قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}..[ يس : ٨٧- ٩٧].
س: من هذا الذى ضرب المثل؟ وما سياق ضربه؟
ج: طالما خدع الإنسان على مر التاريخ بظنه أن فى إمكانه تصور قدرة الله مقارنة بقدرة البشر، فينظر إلى الأشياء الكونية من منظوره العاجز، ويخيل إليه أن ما لم يقدر عليه يظنه مستحيلا على غيره، وبجهله وغفلته يدخل فى هذا الغير خالق الكون بلا عون، وما كان تكذيب الكفرة على مدى العصور برسالة الأنبياء إلا من هذا القبيل.
فمن أهم عناصر الرسالات السماوية لدى كل نبى بعثه الله دعوته إلى ضرورة الإيمان بالبعث والنشور، والعرض والحساب، من حيث إن الخلق بدون هذا البعث يكون عبثًا ولهوا، وحاشا لله الخالق الحكيم أن يصدر منه هذا العبث، قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}..[المؤمنون: ٥١١- ٦١١] .
لذلك كله نالت قضية الإيمان باليوم الآخر جدلا ونقاشا طويلا بين الرسل وأقوامهم ممن قصرت مداركهم عن تقدير قدرة الله الغالبة: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}..[الزمر: ٧٦] .
لقد كان الملأ من قوم هود يقولون لقومهم عن رسالة نبيهم:{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}..[المؤمنون : ٥٣- ٧٣].
وعلى هذا الدرب سار كفار مكة فى جدال خاتم رسل الله ﷺ، وقالوا: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ}..[الصافات : ٥١- ٧١] .
واشتط بعضهم كأبىّ بن خلف أو العاص ابن وائل فجاء إلى رسول الله وبيده عظم قد بلى ورم، وصار يفتته بيده ويذريه فى الهواء ساخرًا وهو يقول لرسول الله ﷺ: «أترى يا محمد أن ربك يحيى هذه العظام بعد أن صارت رميما مسحوقًا مذرى فى الهواء».. يقول ذلك وهو مزهو مغرور ساخر موقن أن هذا المثل الذى ضربه واستشهد به من الواقع المنظور لا تقف أمامه حجة أو دليل.. وإزاء هذا الموقف الجاحد يجيبه رسول الله ﷺ إجابة الواثق المؤمن الغضوب لحرمة هذه العظام التى انتهكها هذا الكافر: «نعم ويبعثك ويدخلك النار»، وهو فى ذلك مقتف أثر الوحى الذى جاء به حينما أشار إليه بأن يرد على أمثاله:
{قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ}..[الصافات ٨١- ٩١] .
وحين يحكى ما يقولون:{يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}..[النازعات : ٠١- ٤١] .
وهذا هو ضارب المثل وهذا هو سياقه.
س: وبماذا رد الله على من ضرب هذا المثل فى هذا السياق؟
ج: لقد سلك القرآن الكريم فى إبطال ما ادعاه هذا الكافر حين ضرب هذا المثل مسلكًا منطقيًا مفحما حيث جذبه من واقعه المغرور إلى الحقيقة المغيبة، فإذا كان يستبعد إعادة عظام نخرة فلماذا لم ينظر إلى أصله ونشأته؟! إنه لم يكن شيئًا مذكورًا، وكان نطفة بين الصلب والترائب، فحول الله هذه النطفة إلى علقة ثم إلى مضغة ثم إلى عظام، ثم كسا العظام لحمًا، ثم أنشأه خلقا آخر.. أليست تلك حقيقته التى ينساها والتى لا يستطيع إنكارها؟! وإلا فمن أنشأ هذه من العدم يكون عاجزًا عن إعادتها وبعث الحياة فيها؟!
إن الإعادة فى عرفنا أهون من الإنشاء، ولله المثل الأعلى، فكيف يستقيم فى منطق العقل البشرى هذا الاعتراض؟! لقد خيل الشيطان لأمثال هذا الغر الجهول أن الحياة ضد الموت فلا يمكن أن يجتمعا فى مادة واحدة، فهذا العظم قد مات ولا يمكن أن يحيا من جديد، وجاء الوحى ليرد على هذا الزعم الباطل بالنسبة للقدرة المطلقة باستحضار آية مشاهدة لدى البيئة التى يعيش فيها هذا المجادل، فالماء والخضرة ضد النار والذبول، ومع ذلك هم يقطعون من شجر المرخ والعفار أغصانًا خضراء يقطر منها الماء فيسحقون المرخ على العفار فتنقدح النار، ويسمون ذلك زناد العرب، فكيف جاءت النار من الماء وهما ضـدان؟!!
إن الحكمة الإلهية تكمن فى تقدير النسب بين العناصر المكونة للمادة، فالماء ما هو فى عرف العلماء إلا أكسيد الأيدروجين، أى أنه مكون من مادتى الأكسجين والأيدروجين بنسبة معينة، إذا اختلت وانفرد الأيدروجين كان مادة مشتعلة، وكان الأكسجين مساعدًا للاشتعال، فسبحان من جعل لكل شىء قدرًا، وإذن فالله الذى :{جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}..[يس: ٠٨]
قادر على أن يبعث العظم الرميم حيًا، والذى أخرج النبات من الأرض الجرز حين ينزل عليها الماء من السماء قادر على إنبات هذا العظم وإخراجه من القبور ناميًا كالنبات، وقديمًا قال نوح لقومه: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا}..[نوح ٧١- ٨١].
س: وكيف يتصور العقل البشرى تلك الإعادة لهذا العظم الذى سحق وذرى فى الهواء؟
ج: لقد رد الله على هذا التساؤل حين قال تعقيبًا على هذا المثل: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}..[ يس: ٩٧]
فعلمه سبحانه وتعالى بكل ذرة فى الكون، بل وبكل مكونات هذه الذرات، لا يستبعد عليه شىء، فهو سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}..[يس ٢٨- ٣٨].