أوقفوا فوضى استيراد «ولاد الحرام»
هل ننتظر حتى تغلق مصانع مصر؟!
■ رشيد وقع اتفاقا تجاريا مع الصين بـ10 مليارات دولار وأغلق بسببه 1500 مصنع
■ هناك طلبات استيراد لسلع استهلاكية بنحو 3 مليارات دولار لدى البنوك
■ دخل قناة السويس يغطى استيرادنا من القمح فقط والسياحة تغطى المواد البترولية
■ مصر لن تبنى نفسها سوى بإغلاق حدودها الاقتصادية أمام السلع الاستفزازية
أحيانا تبدو الأسئلة منطقية، ولكن الاجابات تكون مجنونة، فحين يكون السؤال هل من الأولى أن نستورد القمح أم نستورد الترمس الصينى والمشمش الأمريكانى، لا يجب أن تكون الاجابة أن الترمس الصينى والفاكهة الأمريكانى لها جمهور ومواطنون شرفاء يرغبون فى شرائها، وأن على الحكومة واجباً تجاه رعاياها توفير الترمس والفاكهة والجبن والشيكولاته المستوردة.
أحيانا تكون المشكلة واضحة، لكن ثمة هوى وملابسات تحجب عنا الرؤية الصحيحة، فيجعلنا ننجرف بالرؤى.
ومن أكبر الخدع التى وقعنا فيها حكاية أن ثورة 25 يناير تسببت فى إغلاق المصانع.ربما ساعدت ظروف ثورة 25 يناير على إغلاق المزيد من المصانع، أو أن تصل المصانع المتوقفة جزئيا إلى التوقف الكلى.
ومن الخدع الكبرى أننا نعانى أزمة فى الدولار، والحقيقة أننا نعانى أزمة فى عشوائية الاستيراد.
نحن نأكل ونشرب ونلبس كدولة عظمى اقتصادها قوى واستثماراتها بالمليارات من الدولارات، فنتجاهل حقيقة أننا دولة تعانى من أزمة اقتصادية طاحنة وخانقة، وأننا نحتاج أن نعيد بناء أولوياتنا الاقتصادية وشكل خريطة المشروعات والتوجه الاقتصادى لدولة حديثة.
أصل البلاء
منذ كسر الرئيس السادات القيود على الاستيراد فيما عرف بالاستيراد السداح المداح بتعبير الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، منذ ذلك الحين دخلت السوق المصرية كل أنواع وأشكال المنتجات والسلع المستوردة الرديئة والجيدة، لكن موجة التصنيع فى أوائل عصر مبارك أحدثت نوعاً من التوازن. استطاع المصريون أن يجدوا الكثير من السلع والمنتجات التى تحمل عنوان «صنع فى مصر»، فظل المستورد خاصة المهرب ينافس المصرى فى الأسواق المصرية.
لكن وزير الصناعة والتجارة السابق والهارب المهندس رشيد محمد رشيد ارتكب الخطيئة الكبرى ضد الصناعة المصرية، فبدلا من أن يحمى الصناعة كتب شهادة وفاتها. سعى رشيد لإقناع مبارك بالتوجه للصين، فهو توجه فى حد ذاته مفيد، لكن الاتفاق التجارى الذى تم لم يكن مفيداً على الإطلاق. قد وضع رشيد بوصفه المسئول عن ملف التجارة اتفاقاً تجارياً بـ10 مليارات دولار من الغول الصينى. الصين التى أرعبت أمريكا وأسواق أوروبا، ولم يتشدد رشيد فى المواصفات القياسية للسلع والمنتجات الصينية فى السوق المصرية، فكانت النتيجة اكتساح المنتجات الصينية كل مجالات الصناعة والإنتاج المصرى، فعجزت المصانع خاصة المتوسطة عن منافسة السلع الصينية، فالنتيجة أن نحو 1500 مصنع قد أغلقت أبوابها قبل ثورة 25 يناير، فكانت مصانع كثيرة أخرى فى الطريق للإغلاق، فعندما قامت الثورة تسببت الإضرابات العمالية والانفلات الأمنى فى زيادة الوضع سوءا فقط.
فلو كانت الصناعة المصرية متينة وقوية لما وصل عدد المصانع المغلقة «كليا وجزئيا» لـ4500 مصنع على الأقل.
لقد بدأ النزيف قبل الثورة وبفعل خطيئة رشيد، فبدأ نزيف الاحتياطى قبل الثورة، لكن وجود استثمارات أجنبية من ناحية، ووجود احتياطى قوى ومرتفع «أكثر من 37 مليار دولار» من ناحية أخرى لم يجعلنا نشعر بخطورة القضية أو توابعها الا بعدما تأزم الوضع الاقتصادى، فانهار الاحتياطى ليصل لحد الأمان «ثلاثة أشهر من الواردات».
حب الدولار
ليس صحيحا أن أزمة الدولار أو بالأحرى بيع الدولار فى السوق السوداء وليدة اليوم أو الأمس أو وليدة قرارات البنك المركزى الأخيرة أو قبل الأخيرة.معظم المصدرين وأهل السياحة يبيعون حصيلة الدولارات فى السوق السوداء، أو يضعون الحصيلة فى حسابات بنوك الخارج، فخلال حكومة عاطف عبيد أصدرت الحكومة قرارا بإلزام المصدرين وأهل السياحة ببيع 75% من الحصيلة للبنك المركزى أو البنوك المصرية، فعقد محافظ البنك المركزى الدكتور فاروق العقدة اجتماعا مع المصدرين وأهل بيزنس السياحة لبحث تطبيق القرار، فقال له أحد كبار المصدرين «يا دكتور أنا بحبك، بصراحة مش للدرجة دى» وأضاف الرجل بصراحة تامة أن 75% من أرباحه تأتى من بيع حصيلة التصدير من الدولارات فى السوق السودا».
وهذه القصة الساخرة لا تكشف فقط معدن معظم المصدرين وأهل البيزنس، لكنها توضح أننا شعب لم ولن نتعامل بسهولة مع البنوك لبيع الدولار، فإن أزمة الدولار قديمة وليست وليدة اليوم، فإننا لم نضمن أن يرضى أهل البيزنس ببيع الدولار للبنوك بأى سعر، لأن القضية هي استمرار الاستيراد العشوائى.
أوقفوا الاستيراد العشوائى
وليس أدل على موجة الاستيراد العشوائى التى تضرب مصر سوى هذا الرقم، فحتى قبل وصول الوديعة الخليجية البالغة 6 مليارات دولار كان المستوردون قد جهزوا طلبات استيراد بـ3 مليارات دولار، فلو استجبنا لهذه الطلبات لطارت نصف الوديعة الخليجية، كذلك هناك سلع لها بديل فى مصر، فلذلك فإننا لا نستهلك احتياطى مصر من الدولار فقط. الأخطر أننا نخسر كل يوم مصنعاً أو مشروعاً فى منافسة الصينى والتركى والأمريكى والفرنسى الخ الخ. لقد بنت مصر حضارتها الصناعية أيام الزعيم جمال عبدالناصر بحماية حدودها الاقتصادية ومنع استيراد السلع الاستهلاكية.كان شعارنا أن الأولوية للقمح الذى يأكله المصريون، وآلات المصنع الذى يبنيه المصريون، فى ذلك الوقت كانت الأهداف واضحة أمام أعيننا، فلم ندخل فى جدال حول الحق الديمقراطى للمواطنين. حقهم فى الاختيار ما بين 100 نوع من الجبن الفرنسى أو السمن والزبد الهولندى والمكرونة الإيطالى.
بالتأكيد هذا ليس هو مفهوم الديمقراطية ولا مسئولية الحكومة. خاصة أن إيرادات قناة السويس تفى بالكاد لاستيراد احتياجات القمح وبقية مصادرنا من الدولارات تغطى بقية الواردات من المواد البترولية وخامات المصانع والأدوية، فلذلك يجب أن نتخذ قراراً جريئاً وطنيا وشجاعا بوقف استيراد السلع الاستهلاكية لمدة عامين على الأقل، والسماح للفنادق باستيراد احتياجاتها فقط.
أنا لا أطالب وزير الصناعة منير فخرى عبدالنور بأن يتخذ هذا القرار، فذلك على الرغم من انه الوزير المسئول، لكن هذا القرار أخطر وأكبر من أن يتخذه وزير أو حتى رئيس حكومة، فشبكة المصالح والعلاقات فى بيزنس الاستيراد عميقة وراسخة، والأرباح هائلة وتفوق الخيال، فلذلك هذا قرار يجب أن يتخذه ويدعمه ويقف وراءه رئيس الجمهورية بشعبيته وقوته، فالحقيقة أنه من الصعب تصور أننا وقفنا فى وجه رغبات أمريكا. وحتى الآن لا نزال نعجز عن مواجهة سيل أو سيول السلع الاستفزازية التى تدمر الصناعة المصرية، فتستنزف الاحتياطى. أوقفوا استيراد «ولاد الحرام» اوقفوا الاستيراد السداح المداح.قبل أن نندم جميعا وقت لا ينفع الندم، فنحن لم ننجز مشروعاتنا الكبرى طالما ظلت الأوضاع على ما هى عليه.حصيلة مصر من الدولارات تباع فى السوق السوداء لتغطية استيراد فستق وترمس وشنط وأحذية حريمى، فبمناسبة الشنط والأحذية الحريمى فقد أغلق أحد أهم مصانع الأحذية فى مصر مصانعه التى ظلت تعمل لمدة أربعين عاما، فقرر ببساطة أن يشرد عمال المصانع، فإن يرسل الجلد المصرى للصين، فهناك يتم تصنيع الجلد ثم إعادته لمصر المحروسة.تفتكروا لو استمر هذا الحال لو استمرت هذه الفوضى هل ستظل مصر محروسة فعلا، فهل ستصبح مصر قد الدنيا؟!