عادل حمودة يكتب: مذبحة استقلال القضاء
توريط الرئيس فى قانون يسمح للحكومة بإلغاء الأحكام القضائية.. بالتصالح
القانون يشجع 10 ملايين مسئول فى الدولة على ارتكاب جرائم المال العام بأعصاب باردة ودون تردد ولتضرب الأجهزة الرقابية رأسها فى الحائط
يكاد تصريح الرئيس بأن «لا أحد يتدخل فى أحكام القضاء» يكون تصريحا يوميا.. مرة يؤكد أنه لا يسمح به.. ومرة يشهد الله عليه.
وبنفسه أعلن ما سمع من النائب العام المستشار هشام بركات: «يا فندم لا أحد سيكون معنا ونحن نحاسب أمام الله».. «لن ينزل أحد معنا إلى القبر».
ولا يسجل قاضٍ واحد أن الرئيس اتصل به أو سأله فى قضية منظورة أمامه.. مما يعطى ثقة لا تقبل الطعن فى صدق ما يقول الرئيس.
لكن.. الحقيقة أن هناك من وضع الرئيس فى مأزق دستورى وقانونى وسياسى يفتح بابا عريضا أمام السلطة التنفيذية لتعتدى على السلطة القضائية.. وتغتصب وظيفتها.. وتسقط أحكامها بقرارات إدارية فى إسقاط لأحكام السلطة القضائية.. ويجعل ما يقول الرئيس عرضة للنفى والطعن والنقض.
فى 12 مارس الماضى أصدر الرئيس بقرار منه القانون رقم (16) المعدل لقانون الإجراءات الجنائية الذى يبيح لرئيس الجمهورية العفو عن مرتكبى الجرائم دون ذكر الأسباب.. تقديرا منه للمصلحة العامة.. وبهذا الحق تقايض الدولة الجواسيس.. أو تفرج عن أجانب يسبب وجودهم فى السجون ضررا قوميا.
وربما يستغل رئيس الجمهورية هذا الحق استغلالا سيئا كما فعل محمد مرسى بالعفو عن إرهابيين محكوم عليهم بالمؤبد أو الإعدام.
لكن.. القانون نفسه له وجه آخر مظلم «ما كان للرئيس أن يوافق عليه من حيث المبدأ ناهيك عن توقيعه لو أنه علم عند عرضه عليه حقيقته المشبوهة المقاصد.. الشاذة عن النظام العام والعرف الدستورى والواقع السياسى منذ ما يقرب من 400 سنة منذ توقيع اتفاقية «وستفاليا» التى أنهت الحروب الأهلية فى أوروبا ووضعت مبادئ إنشاء الدولة الحديثة» حسب ما وصف الفقيه القانونى الشهير الدكتور على حامد الغتيت الذى نعتمد على تحليلاته وتجلياته فيما نكتب.
لقد أضاف القانون مادتين جديدتين هما (18) مكرر (ب) و(208) مكرر (هـ) إلى قانون الإجراءات الجنائية.. وبمقتضاهما «أجيز لأول مرة فى التاريخ الحضارى المعاصر ما ظل محظوراً دستورياً وهو إجازة التسوية الودية والصلح مع مرتكبى جنايات الاعتداء على مصالح الدولة والمنصوص عليها فى الباب الرابع من الكتاب الثانى من قانون العقوبات وهى:
(1) جرائم اختلاس الأموال العامة والخاصة والاستيلاء عليها بغير حق.
(2) جريمة الغدر أو طلب أو أخذ ما ليس مستحقاً من غرامات وضرائب.
(3) جرائم محاولة التربح من أعمال الوظيفة والإخلال بتوزيع السلع.
(4) جرائم إحداث الضرر بالأموال والمصالح عمدًا بالإهمال.
(5) جرائم الإخلال بتنفيذ بعض العقود الإدارية وعقد المقاولة.
(6) جريمة استخدام العمال سخرة.
(7) جريمة تخريب الأموال الثابتة والمنقولة.
أباحت المادة (18) مكرر (ب) من القانون التصالح فى هذه الجرائم « (1) بموجب تسوية تعدها لجنة من الخبراء.. (2) يصدر بتشكيلها قرار من رئيس مجلس الوزراء.. (3) ويحرر محضر يوقعه أطرافه.. (4) ويعرض على مجلس الوزراء لاعتماده.. ولا يكون التصالح نافذا إلا بهذا الاعتماد.. ويعد اعتماده من مجلس الوزراء توثيقا له وبدون رسوم.. ويكون لمحضر الصلح فى هذه الحالة قوة السند التنفيذى».
وتضيف المادة نفسها: «(5) ويتولى مجلس الوزراء إخطار النائب العام سواء كانت الدعوى قيد التحقيق أو المحاكمة.. ويترتب عليه انقضاء الدعوى الجنائية عن الواقعة محل التصالح بجميع أوصافها.. (6) وتأمر النيابة العامة بوقف تنفيذ العقوبات المحكوم بها على المتهمين فى الواقعة إذا تم الصلح قبل صيرورة الحكم باتا».
وتستطرد المادة: «(7) فإذا تم الصلح بعد صيرورة الحكم باتا وكان المحكوم عليه محبوسا نفاذا لهذا الحكم جاز له ولوكيله الخاص أن يتقدم إلى النائب العام بطلب وقف التنفيذ مشفوعا بالمستندات المؤيدة له.. (8) ويرفع النائب العام الطلب إلى محكمة النقض مشفوعاً بهذه المستندات ومذكرة برأى النيابة العامة وذلك خلال عشرة أيام من تاريخ تقديمه.. (9) ويعرض على إحدى الدوائر الجنائية بالمحكمة منعقدة فى غرفة المشورة لنظره لتأمر بقرار مسبب بوقف تنفيذ العقوبات نهائيا إذا تحققت من إتمام الصلح واستيفائه جميع الشروط والإجراءات المنصوص عليها فى هذه المادة ويكون الفصل فى الطلب خلال خمسة عشر يوما من تاريخ عرضه وبعد سماع أقوال النيابة العامة والمحكوم عليه».
وتنتهى المادة بأنه: «(9) فى جميع الأحوال يمتد أثر التصالح إلى جميع المتهمين أو المحكوم عليهم دون المساس بمسئوليتهم التأديبية.. ويقدم طلب التصالح من المتهم أو المحكوم عليهم أو وكيله الخاص.. ويجوز للأخير اتخاذ جميع الإجراءات المتعلقة بإعادة إجراءات المحاكمة فى غيبة المحكوم عليه فى الأحكام الصادرة غيابيا».
حسب تقدير الدكتور على الغتيت: «يقلص هذا القانون بما نصت عليه هذه المادة صراحة اختصاص القضاء الجنائى الأصيل فينحسر بمقتضاه كامل اختصاص جرائم المال العام عن محكمة الجنايات بل ويسقط محكمة النقض فى اختصاصها منفردة فى إصدار الأحكام القضائية الباتة فى تلك الجرائم.. وبمقتضاه أصبحت السلطة التنفيذية صاحبة القول الفصل فى جرائم المال العام لتحل بذلك محل القضاء المستقل.. وبمقتضاه تصبح قرارات هؤلاء الخبراء ومحاضرهم بالصلح المعتمدة من السلطة التنفيذية أقوى من محكمة النقض ذاتها.
إننا أمام جريمة تشريعية تهدد الفصل بين السلطات وتشجع على ارتكاب الجنايات فكل المطلوب بعد الاعتداء على المال العام القبول بما تنتهى إليه لجان التسويات.. حسب ما يلى من تفسيرات:
(1) تسوية السلطة التنفيذية تلغى الأحكام القضائية الجنائية النهائية بالإدانة بأحكام السجن والسجن المشدد الصادرة من محاكم الجنايات فى جرائم المال العام القابلة للطعن بالنقض.
(2) تتمتع السلطة التنفيذية بسلطة إصدار أوامر بالتسوية والتصالح وتسبغ عليها صفة السند التنفيذى قوة قانونية تفوق قوة الأمر المقضى التى يكتسبها بحكم القانون العام المصرى الأحكام القضائية الجنائية الباتة الصادرة من محكمة النقض.
(3) قرارات السلطة التنفيذية الممثلة فى «لجان الخبراء» أصبحت بحكم نفس القانون فوق السلطة القضائية إذ أصبح من إطلاقات السلطة التنفيذية إلغاء الأحكام والعقوبات الجنائية النهائية الباتة إذا تمت المصالحة قبل تنفيذ العقوبات الجنائية فى جرائم الأموال.. كما أن السلطة التنفيذية أصبحت لها اختصاص تكليف محكمة النقض بإلغاء تنفيذ هذه العقوبات نهائيا لو كان التنفيذ قد بدأ.
(4) وتمتد هذه الآثار الشاذة دستوريا للقانون إلى ما وراء التسوية مع المتصالح ليستفيد منها شركاؤه فى نفس الجريمة فتسقط الأحكام الجنائية عنهم ويستردون حريتهم وكأن شيئا لم يكن.
وحاول القانون الإيهام بتوفير ضمانات (ما) فاشترط لنفاذه: أن تعتمد السلطة التنفيذية قرارات الخبراء الذين وقع عليهم اختيارها ومحاضر التسوية والتصالح بعد التوقيع عليها وألا يحول نفاذ التسوية والتصالح دون إعمال المساءلة التأديبية.
ويشجع هذا القانون كتلاً هائلة على الفساد.. منها ستة ونصف مليون موظف مكلفون بأعباء السلطة العامة والحكم المحلى.. ونواب مجلس النواب والمجالس المحلية.. وأفراد القوات المسلحة.. مجالس إدارات الشركات العامة والنقابات والجمعيات التعاونية والخاصة.. ليرتفع الرقم إلى نحو عشرة ملايين شخص يمكنهم ارتكاب جرائم المال العام بقلب مستريح وأعصاب هادئة فكل ما ينتظره من عقوبات قانونية ستنتهى فور التصالح.. هل هناك تشجيع للفساد أكثر من وجود مثل هذا القانون؟.
ويبرئ الدكتور على الغتيت من فكر فى هذا القانون من صفة الجهل بالأصول القانونية أو نية العبث بالمصلحة الوطنية.. ولكنه.. يرى أن الدولة لجأت إليه لتحسين مناخ الاستثمار.. على أن ذلك نوع من حسن النية الذى يلقى بنا فى الجحيم.. فالاستثمار لا يزدهر فى غياب استقلال القضاء.. ومنح الحكومة سلطة إلغاء الأحكام.. والإفراج عن مرتكبى جرائم المال العام بالتصالح.. مما يلغى رادع الخوف من السجن.. فيتفشى الفساد.. ويهرب المستثمر الجاد أو يجبر هو الآخر على الانحراف.
وبحسم يخلو تماما من التردد يضيف الفقيه القانونى الشهير: إن هذا القانون قولا واحدا منعدم دستوريا «إلا أن آثاره داخليا وخارجيا قاصمة».. ولو بقى قائما فإنه ينهى «مشروعية الدولة» فى مصر.
ويقترح: قراراً جمهورياً بتجميد القانون تمهيدا لإلغائه والبحث عن بديل يعيد لمبدأ الفصل بين السلطات اعتباره.. ومؤقتا.. توفر رخصة إلغاء الأحكام الممنوحة للرئيس منفذا مناسبا لحالات الضرورة.. والمؤكد أنه لن يفرط فى استخدامها.
لقد صدر القانون قبل أيام من المؤتمر الاقتصادى ومعه قوانين الاستثمار والخدمة المدنية والضرائب.. ويبدو أن التعجل فى صياغته فرضت عليه ما فيه.. ويلفت النظر فيه موافقة المجلس الأعلى للقضاء عليه فهو يلغى سلطاته.
ولو كان القانون قد وضع لاستعادة ما نهب من الدولة فى سنوات سابقة دون أن يكون هناك سبيل آخر لاستعادتها فكان لابد من تحديد فترة زمنية للقانون ليستفيد منه فاسدون سابقون فقط دون أن يمتد أثره إلى فاسدين لاحقين.
إن من حق الرئيس أن يفخر بأنه لا يتدخل فى الشأن القضائى دون أن يخرج من ينفى ذلك وينكره.