رشا سمير تكتب: "ريش" وكر المثقفين
لو كان الوكر فى اللُغة العربية هو عُش الطائر لأصبح من الإنصاف أن نُلقب (قهوة ريش) بوكر المثقفين.. ولو كان الصرح فى المُعجم هو القصر العالى المشرف، فمن البديهى أن ننعت قهوة ريش بأنها صرح مصر الثقافى..
يوم دلفت إلى القهوة كان يملؤنى فضول رهيب لاستطلاع المكان، ورؤية تاريخ مصر وهو يتحدث عبر جدران خرسانية وقطع خشبية تروى أحداثا وثورات..
فهنا جلس نجيب محفوظ وهنا كتب الفاجومى أشعاره.. وهناك اختبأ الضباط الأحرار يخططون لثورة 23 يوليو.. وفى البدروم التف سعد زغلول ورفاقه حول مائدة صغيرة يطبعون منشوراتهم السرية على آلة لطبع المنشورات تم اكتشافها بالصُدفة عقب شرخ فى أحد جدران المقهى نتيجة لزلزال 1992.
لمحت مجدى عبد الملاك الطيار العسكرى المتقاعد يقبع فى ركنه الشهير يمين الباب، ولمحت فى قسماته استفسارا وقسوة لم أفهمها فى البداية.. ثم عرفت بعد ذلك أنه رجل ينتقى رواد المكان ويفرض عليهم احترام ما يحمله المكان من قدسية تاريخية، وعرفت فيه فيما بعد رجلا غيورا على وطنه، مُحبا لأصدقائه..
قال دون أن أتكلم: " أنا عارفك على فكرة وباشوفك فى التليفزيون"
سألته: "وقريتى لى حاجة؟"
قال لى: "قرأت مقالاتك، بس بما إنك حتبقى من رواد ريش يبقى لازم تهدينى رواية"..
وبالفعل أهديته رواية جعلتنى جزءا من تاريخ مصر على أرفف مكتبة هائلة ضمت العديد من الكتب التى كان مجدى صديقا لكُتابها..
تكررت زياراتى وتحدثنا طويلا.. أرانى عقود بيع وشراء القهوة ولائحة الأسعار وإعلانات حفلات الأنسة أم كلثوم، وقصاصات الجرائد التى اصفرت أوراقها، وصور لرواد المكان منذ أنشأ.. تاريخ كان يحفظه فى خزانة حديدية قديمة..
كان حُلمه أن ينشر كتابا يضم كل تلك الوثائق حتى لا تضيع حين يرحل أو تذهب ليد من لا يُقدر قيمتها..
كان له ألف تحفظ على شخصيات بعينها ممن أدعوا الثقافة والوطنية وهم فى الحقيقة سرقوا التاريخ وأنسبوه لأنفسهم وهم لا يمتلكون سوى الزيف والوهم ليبيعونه للناس.
رحل عم مجدى.. رحل الأب الروحى لقهوة حملت عبق قاهرة المُعز.. وحين استشعر قرب النهاية ذهب ليقابل وزير الثقافة د.جابر عصفور ثقة منه فى أن الرجل يعى مكانة القهوة ويحرص على كل ما يُضيف للثقافة المصرية..
عرض عليه أن يتنازل عن القهوة للوزارة بعد وفاته فى مقابل أن ترعاها الوزارة وتُحافظ على طابعها.. ودون تفكير رحب د.جابر بالعرض وطلب من مجدى تنازل مكتوب وموثق..
لكن القدر لم يُمهله.. فرحل مجدى ولم يكتمل الحُلم..
رحل مجدى تاركا وراءه كنزا لا يعلم أحد مصيره..
اجتمع المثقفون وقرروا أن ينشئوا جبهة للحفاظ على تراث هذا المكان المهم..
ولأول مرة منذ بداية الثمانينيات تُغلق قهوة ريش، وهذه المرة ليست بأمر الرئيس السادات ولكن بأمر القدر!..
أتمنى أن يعمل وزير الثقافة الحالى جاهدا كى ينقذ القهوة العريقة، فهذا واجبه دون شك، كما أنها دعوة لرجل الأعمال ساويرس الذى يمتلك المبنى، بأن يقوم بشراء القهوة مع تعهد بالحفاظ على العاملين بها والحفاظ على شكلها الحالى..
كما أدعو الهيئة العامة لقصور الثقافة أن تتبنى حُلم الراحل مجدى بجمع كل الوثائق ووضعها فى كتاب يؤرخ بالصور لمرحلة مهمة من تاريخ مصر..
وعدت عم مجدى أن أكتب عن (ريش)، فضحك وقال: "اتكتب عنها ألف مرة".. فابتسمت وقلت له: "أعدك أننى سأكتب عنها بمذاق مُختلف"..
وها أنا أفى بالوعد..
رحم الله مجدى عبد الملاك.. الرجل الذى عشق مصر يوم احتضن تاريخها..