ياحبيبتى ياشادية

العدد الأسبوعي

بوابة الفجر


قالت ربنا يخليكى وينصرك يا مصر:
هل كانت تعلم هذه السيدة العظيمة أنها تصنع التاريخ بفنها وترسم المستقبل بصوتها وتبنى الحاضر بابتسامتها؟

الكتابة عن الوضع السياسى فى مصر أو ما يحدث فى العالم أسهل بكثير من الكتابة عن الست شادية، تنميق الكلمات وترتيبها وتشكيلها فى مقال أصبح شيئًا سهلاً تعودنا عليه، وفى بعض الأحيان يتحول إلى أداء وظيفى بحكم المهنة، لكن الكتابة عن الست شادية تتجاوز ترتيب جمل، وصناعة إيقاع فى المقال، فأنت لا تسعى إلى رسم لوحة كلاسيكية تقليدية تعلق فى صالون المنزل، بل تسعى لرسم لوحة تعيش، لوحة مكتوبة بمشاعر وبألوان مختلفة، تستخدم فيها الفحم والزيت والألوان المائية وتتداخل الحروف فيها دون أن تتحول إلى بقعة عشوائية.

حينما سمعت رسالتها الصوتية فى أكاديمية الفنون بعد حصولها على الدكتوراه الفخرية لم أمسك نفسى من البكاء، وسألت نفسى: لماذا نبحث عن القبيح والجميل يعيش بيننا؟

فقد نجحت الدكتورة أحلام يونس - رئيس أكاديمية الفنون- أن تظهر لنا أجمل ما بداخلنا.. أخذت نفسا عميقا ضاحكًا بداخلى قائلا: مصر فيها شادية.. آسف الست شادية، حينما تشعر بالغضب أو التذمر من وضع معين أو الاكتئاب أنظر إليها وأسمع صوتها، فهى تعيش بيننا، مثلها مثل الهرم وبانوراما حرب أكتوبر وبرج القاهرة، إن ما فعلته شادية بالمصريين من حب مثل الجندى الذى ضحى بحياته من أجل حبة رمل فى سيناء، الست شادية هى الوقود الذى نكمل به حياتنا وسط البؤس، هى جرعة الوطنية التى نتعاطاها يوميا حينما نسمع صوتها القادم من الجنة يشدو يا حبيبتى يامصر، هى التى حولت علاقتنا بالوطن إلى قصة حب، أحيانا اسأل نفسى لماذا لا يصبح النشيد الوطنى «يا حبيبتى يامصر» به من الحب ما يجعلنا نبنى ألف وطن، هل كانت تعلم هذه السيدة العظيمة أنها تصنع التاريخ بفنها، وترسم المستقبل بصوتها، وتبنى الحاضر بابتسامتها؟

الست شادية هى مصر الحلوة بكل معانيها، ملامحها، نبرة صوتها، نظرة عينيها، شعرها الأسود الداكن، لقد صبرنا وجودها فى حياتنا على فراق فاتن حمامة ويوسف شاهين وعبدالرحمن الأبنودى وأحمد فؤاد، الست شادية تعيش بيننا، هل نعرف قيمة هذا أم مازلنا نبحث عن كل ما هو قبيح ننبش فيه؟

الرسالة الصوتية قالت فيها «ربنا يخليكى وينصرك يامصر.. تحيا مصر»، لو سمعت هذه الجملة من ألف شخص ربما لا أصدقها، لكن حينما سمعتها من الست شادية بكيت، فقد ربتنا على الصدق والحب، يا ست شادية نحن نحبك، أقسم بالله العظيم، صوتك بنى صورة مصر بداخلنا، نحن فخورون بك، ندعو لك ألف مرة فى اليوم، نتضرع إلى الله أن يجازيك خيرًا على ما فعلته بنا، أنت وكل من صنع مصر التى فى خاطرنا.. بليغ حمدى، صلاح جاهين، أم كلثوم، صلاح أبوسيف، سعاد حسنى.. يا ست شادية لا تبخلى علينا.. نريد أن نسمع صوتك دائما.. نطمئن أنك بخير حتى نشعر بأن للحياة معنى وطعمًا.. نحن نرفع رأسنا لفوق وتصل إلى القمر حينما نقابل الآخرين نقول لهم إننا نعيش فى مصر.. بلد شادية.. نعم نحن بلد الست شادية ونفتخر بهذا.. الست شادية كان يجب أن تكون صفحة فى كتاب التربية الوطنية، وأن يكون لها تمثال فى بانوراما حرب أكتوبر، أو لوحة فى قناة السويس فقامتها تستحق ومقامها يفتخر به وطن.

فنيا الست شادية فعلت ما يتمنى أى فنان فى العالم أن يصل إليه، متعددة المواهبة، تدخل إلى قلب المشاهدين والمستمعين دون استئذان فهى مصرية فى كل شىء، ممثلة رائعة، مطربة قادمة من السماء، فى السينما قدمت كل شىء من الكوميدى وحتى الميلودراما، هل تتخيلون أن هذه السيدة العظيمة عاصرت وشاركت فى دويتوهات مع محمد فوزى وعبد الحليم حافظ، أضحكتنا مع صلاح ذو الفقار فى «مراتى مدير عام» وأبكتنا فى «نحن لا نزرع الشوك»، فى فيلم مثل «شىء من الخوف» لحسين كمال أيقنت السيدة شادية ما هو الدور المطلوب منها «فؤادة» لم تكن المرأة التى وقع فى غرامها عتريس، بل هى مصر بكل ما تحمله الكلمة من معان، مصر الطيبة التى تحب عتريس لكنها لا تقبل ظلمه، مصر التى تدوس على قلبها من أجل الغلابة، التى لا يستطيع أحد خطفها، هناك مدرستان فى التمثيل إحداهما نراها من خلال فاتن حمامة التى تشعر بطغيان شخصيتها فى كل دور تؤديه، وتجعلك تشعر أن فاتن حمامة تؤدى الدور، وهناك مدرسة أخرى تمثلها سعاد حسنى التى تنسحق داخل الدور الذى تؤديه ولا تعرف الفارق بينها وبين الشخصية التى تؤديها، الست شادية تنتمى إلى فصيلة سعاد حسنى من الممثلين، تنسحق فى الشخصية لدرجة تجعلك لا تعرف الفرق بين شادية وبين الدور الذى تؤديه.

شادية لم تعرف طريق الفشل فى أى شىء مثلت فى السينما والمسرح وغنت وسكنت قلوب المصريين، حتى صوتها نفسه مر بمراحل نضج لم نره فى مطربة أخرى، أم كلثوم مثلا ظلت تغنى بنغمة صوت واحدة طوال حياتها وردة وصباح وفايزة أحمد أيضا، حينما تسمعها تغنى «حاجة غريبة» مع عبدالحليم حافظ مثلا تشعر بأنها مطربة أخرى غير التى تغنى «يا حبيبتى يا مصر» أو «ادخلوها آمنين» فقد نضج صوتها وأصبح أكثر دفئًا وحنانًا ووصولا إلى القلب، لقد أصبح يحمل نكهة بليغ حمدى.

يا ست شادية «ربنا يخليكى ويحرسك لينا.. يا حبيبتى ياشادية».