احمد يونس يكتب : ديمقراطية بنكهة اللحم البشرى على العشاء
البرفان الباريسى الفاخر، إذا اختلط مع العطور الزيتية التى تفوح من ثياب المشايخ المتنكرين فى هيئة الساسة، فـإن رائحة الزنخ على الدوام هى ما تبقى فى الأنوف. فقط رائحة الزنخ، ولا شىء غـير ذلك.
جميعهم رجال دين، وشيوخ قبائل، وتابعون لجــهة ما فى الخارج، أو لأكثر من جــهة فى الوقــت نفــسه. زعماء الطوائف بيلعبوا رؤساء أحزاب، أو أحياناً قـادة جــيوش مــن المرتزقة. الحروب أو المؤامرات أو الدسائس، تدار كلها من حانات بيروت، أو من البارات الخاصة فى منازل الطبقة السياسية. لكنها فى الأصــل معارك يخوضها اللبنانيون بالوكالة، دائماً لحساب أجهزة الاستخبارات الدولية أو الإقليمية.
عمرى ما كنت فى الحقيقة من الذين ينخدعون أمام هذا الذى جرت العادة على تسميته بالديمقراطية فى لبنان. دائماً بدت لى أقرب ما تكون إلى قبضاى بنظارة كارتييه وشنطة سامسونايت. قبضاى يخفى سكيناً حامياً تحت البدلة الشيك التى استلقطها، كمكــمل أسـاسـى لعــدة الشغل، من بلطجى على المعاش بأحد بارات حى بورتا بيللا فى قـــاع لندن، وهو يعادل عندنا سوق الكانتو. وعلى عكس الأغلبية الساحقة من جنرالات المقاهى، فلقد ظللت باستمرار أرفض نظرية قراءة الجواب من عنوانه. الطريقة الوحيدة لفهم محتوى الجواب،على الأقل بالنسبة لى أنا شخصياً،هى قراءته من الكلمة الأولى حتى الأخيرة.
الذى حدث فى لبنان هو أن التجمعات القبلية أو الطائفية أو المذهبية، أمرت سائر أبنائها بـأن يعلقوا على شال العمامة شارات الأحزاب. لكن شيوخها ظلوا يتوارثون الزعامة كما اعتادوا أن يفعلوا دائماً فى القرون الوسطى التى لا يبدو أن لها نهاية. الثروة هم وحدهم-دوناً عن الجميع- يملكونها، ولا مانع من أن يتكرموا فى الأعياد بتوزيع بعض الليرات أو علب الحلوى على الفقراء الذين يساقون إلى الموت كلما شب الحريق. القبائل اتخذت شكل الميليشيات. جرائم الثأر القديمة شهدت تطوراً نوعياً فى أدوات التنفيذ أو ماكياج القتلة أو أدبيات التصفية الجسدية. أوراق اللعب عـلى مــوائد الجران كــازينو فى بيروت، أصبحت تدارى على أجهزة التنصت أو التفجير من على بعــد أو الخواتم المسمومة. كل هذا جاء كهدايا من جميع الدوائر الاستخباراتية حول العالم. الخنجر المدفون بين ضفائر الشعر أو داخل السوتيان ما بين النهدين، أو قنينة السيانيد المخبأة تحت البلوزة، حلت مكانها وسائد الجمرة الخبيثة أو السرير المفخخ. الذى حدث هو أن ملوك الطوائف اتفقوا على المحاصصة. أى تقسيم البلد، وأن ما يسمى بالرموز الدينية أو المذهبية المدعومة من الخارج صارت شريكاً أساسياً لا حدود لشراهته فى الكعكة، وأن هناك مـن يعقدون الصفقات من تحت التــرابيزة- أو من فوقها- حتى مع العدو الصهيونى.
كلهم يدعون أنهم انخرطوا فى معترك السياسة، ليحاولوا إصلاحه من الداخل. كلهم دون استثناء. لا يستوجب الإصـلاح إلا ما هو فاسد. الجميع كانوا على عــلم إذن بأن الطبقة السياسية فى لبنان تغرق إلى ما فوق الجباه فــى مستنقع الفساد. ومع هذا، فلقد ظل كل مـن ينخرط فــى كهنوت هذا المعبد الملعــون يصارع بالكيعان والأسنان من أجل التقدم على حساب الآخرين إلى الصفوف الأمامية. الصراع من أجل موطئ قــدم فى الفترينة التى تموج بالألوان الفاقعة، لا تحكمه سوى شريعة الغاب. بما فى ذلك اغتيال السمعة أو تلفـيق القضايا، بالإضافة إلى إثارة الفضائح أو الضرب تحت الحزام أو التسبب فــى حــوادث القضاء والقدر.
ولم نعد نسمع من خلف أشجار الأرز إلا أنيناً شجياً ومتقطعاً تحمله الريح عبر البحر بصوت مارسيل خليفة أو فيروز أو ماجدة الرومى، أو أشعاراً منسية لجبران.
