حكم قراءة القرآن الكريم بالتجويد
الشيء الجيد في اللغة هو الحسن، يقول ابن منظور: «الجَيِّد: نَقِيضُ الرَّدِيءِ، عَلَى فَيْعِلٍ... وَجَادَ الشيءُ جُودة وجَوْدة أَي صَارَ جيِّدا، وأَجدت الشيءَ فَجَادَ، والتَّجويد مِثْلُهُ». (لسان العرب 3/135، مادة: جود، دار صادر – بيروت).
وفي الاصطلاح: هو إعطاء الحروف حقوقها، وترتيبها مراتبها، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وشكله، وإشباع لفظه، وتلطيف النطق به، على حال صيغته وهيئته، من غير إسراف ولا تعسف، ولا إفراط ولا تكلف. (التمهيد في علم التجويد لابن الجزري ص47، ط. مكتبة المعارف- الرياض).
وجوهر هذه المسألة يكمن في أنه هل أحكام التجويد الزائدة عن أصل الكلمة العربية -كالمد والغن- ولا يخرج الكلمة عن معناها الذي وضعت له في اللغة؛ هل هي واجبة أم لا؟
والراجح عندنا أن مثل هذا غير واجب؛ وإنما الواجب هو النطق بالكلمة كما ينطقها العربي ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا.
والدليل على ذلك أن الله ذكر أن الوحي عربي، أي نزل بلغة العرب، فالأصل في ألفاظه أنها عربية تفهمها العرب، والعربي لم يكن يستخدم في لغته هذه الأحكام، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}.. [النحل : 103]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.. [يوسف : 2]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}.. [الشورى : 7].
ووجه الدلالة من هذه الآية أن القرآن الكريم نزل لجميع العرب ولهجاتها مختلفة، وكانت هناك رخصة للقراءة بما تفهمه قبائل العرب، ويوضح ذلك ما أخرجه الشيخان عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِيهَا، وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ لِي: «أَرْسِلْهُ»، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «اقْرَأْ»، فَقَرَأَ، قَالَ: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ»، ثُمَّ قَالَ لِي: «اقْرَأْ»، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ».
وقوله «سبعة أحرف» أي: حسب لهجات العرب ولغاتها. ومعلوم أن اللغات كانت تختلف في بعض الكلمات مثل (هلم) و(أقبل)، ولذا ظهر الخلاف الشديد في أول الأمر، مما شحذ عمر بن الخطاب إلى الإغلاظ على غيره بهذه الشدة.
ومعلوم أن العرب كانت أمة أمية تجهل الكتابة، فكان لا بد من التسهيل لهم في ذلك، ويظهر ذلك فيما أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ جِبْرِيلَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَحْجَارِ الْمِرَى فَقَالَ لَهُ: «يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ فِيهِمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الْقَاسِي الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ»، قَالَ: «فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ».
فهذا التيسير الذي يصل إلى إقرار القبائل على لهجاتها ولو اختلفت المرادفات، يصعب على العقل أن يتصور معه إيجاب التجويد الزائد، كما بينا.
ثم كيف يكون واجبا وقد اختلف القراء في كثير منه، وهذه أمثلة من هذا: قال ابن الجزري: «(أَمَّا الْإِظْهَارُ) فَإِنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ سِتَّةِ أَحْرُفٍ، وَهِيَ حُرُوفُ الْحَلْقِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَهِيَ: الْهَمْزَةُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالْحَاءُ... وَالْحَرْفَانِ الْآخَرَانِ اخْتُلِفَ فِيهِمَا وَهُمَا: الْغَيْنُ وَالْخَاءُ... فَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِالْإِخْفَاءِ عِنْدَهُمَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ».
(النشر 2/22، ط. المطبعة التجارية الكبرى).
وقال أيضا: «وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي (وَهُوَ الْإِدْغَامُ) فَإِنَّهُ يَأْتِي عِنْدَ سِتَّةِ أَحْرُفٍ أَيْضًا وَهِيَ حُرُوفُ «يَرْمِلُونَ» مِنْهَا حَرْفَانِ بِلَا غُنَّةٍ وَهُمَا اللَّامُ وَالرَّاءُ نَحْوَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، مِنْ رَبِّهِمْ، ثَمَرَةٍ رِزْقًا، هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ وَالْجُلَّةِ مِنْ أَئِمَّةِ التَّجْوِيدِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَذْكُرِ الْمَغَارِبَةُ قَاطِبَةً وَكَثِيرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ سِوَاهُ... وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ إِلَى الْإِدْغَامِ مَعَ إِبْقَاءِ الْغُنَّةِ، وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ كَنَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ عَامِرٍ، وَعَاصِمٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبَ، وَغَيْرِهِمْ... (قُلْتُ): وَقَدْ وَرَدَتِ الْغُنَّةُ مَعَ اللَّامِ وَالرَّاءِ عَنْ كُلٍّ مِنَ الْقُرَّاءِ وَصَحَّتْ مِنْ طَرِيقِ كُتَّابِنَا نَصًّا وَأَدَاءً عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَحَفْصٍ.
وَقَرَأْتُ بِهَا مِنْ رِوَايَةِ قَالُونَ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَهِشَامٍ، وَعِيسَى بْنِ وَرْدَانَ، وَرَوْحٍ، وَغَيْرِهِمْ (وَالْأَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ) الْبَاقِيَةُ مِنْ (يَرْمُلُونَ) وَهِيَ: النُّونُ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ وَالْيَاءُ. وَهِيَ حُرُوفُ (يَنْمُو) تُدْغَمُ فِيهَا النُّونُ السَّاكِنَةُ وَالتَّنْوِينُ بِغُنَّةٍ... وَاخْتُلِفَ مِنْهَا فِي الْوَاوِ وَالْيَاءِ فَأَدْغَمَ خَلَفٌ عَنْ حَمْزَةَ فِيهِمَا النُّونَ وَالتَّنْوِينِ بِلَا غُنَّةٍ وَاخْتُلِفَ عَنِ الدُّورِيِّ عَنِ الْكِسَائِيِّ فِي الْيَاءِ فَرَوَى أَبُو عُثْمَانَ الضَّرِيرُ الْإِدْغَامَ بِغَيْرِ غُنَّةٍ كَرِوَايَةِ خَلَفٍ عَنْ حَمْزَةَ.
وَرَوَى عَنْهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: تَبْقِيَةَ الْغُنَّةِ كَالْبَاقِينَ، وَأَطْلَقَ الْوَجْهَيْنِ لَهُ صَاحِبُ الْمُبْهِجِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَاللهُ أَعْلَمُ». (النشر 2/23-24).
وقال أيضا: «فَلْيُعْلَمْ أَنَّ الرَّاءَاتِ فِي مَذَاهِبِ الْقُرَّاءِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْمِصْرِيِّينَ، وَالْمَغَارِبَةِ -وَهُمُ الَّذِينَ رَوَيْنَا رِوَايَةَ وَرْشٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَزْرَقِ مِنْ طُرُقِهِمْ- عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ اتَّفَقُوا عَلَى تَفْخِيمِهِ، وَقِسْمٌ اتَّفَقُوا عَلَى تَرْقِيقِهِ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَنْ كُلِّ الْقُرَّاءِ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ». (النشر 2/91).
وبمثل هذا المذهب صرحت طائفة من أهل العلم، قال في «شرح القول المفيد»: «اعلم أن الواجب في علم التجويد ينقسم إلى واجب شرعي وهو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، أو صناعي، وهو ما يحسن فعله ويقبح تركه، ويعزر على تركه التعزير اللائق به عند أهل تلك الصناعة. فالشرعي: ما يحفظ الحروف من تغيير المبنى وإفساد المعنى، فيأثم تاركه.
والصناعي: ما ذكره العلماء في كتب التجويد؛ كالإدغام والإخفاء والإقلاب والترقيق والتفخيم؛ فلا يأثم تاركه على اختيار المتأخرين». (نهاية القول المفيد للشيخ محمد مكي نصر الجريسي ص26، ط. دار الكتب العلمية).
على أن هناك من أهل العلم من ذهب إلى خلاف ذلك، والأشهر في هذا المجال قول ابن الجزري في المقدمة: والأخذ بالتجويد حتم لازممن لم يجود القرآن آثم وفي شرحه: «فجعله واجبًا شرعيًّا يأثم الإنسان بتركه، وبه قال أكثر العلماء الفقهاء، ذلك لأن القرآن نزل مجودًا، وقرأه الرسول -صلى الله عليه وسلم- على جبريل كذلك، وأقرأه الصحابة، فهو سنة نبوية. ومن أدلتهم على الوجوب قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}.. [المزمل : 4]، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الترتيل هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف». (قواعد التجويد لعبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ ص40، ط. مؤسسة الرسالة).
وقد مثل ابن الجزري لذلك بالمد مستدلا بحديث الباب، قال ابن الجزري: «فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَقَدَ أَنَّ قَصْرَ الْمُتَّصِلِ جَائِزٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُهُ فَلَمْ أَجِدْهُ فِي قِرَاءَةٍ صَحِيحَةٍ وَلَا شَاذَّةٍ، بَلْ رَأَيْتُ النَّصَّ بِمَدِّهِ وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّالِحِيُّ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ وَشَافَهَنِي بِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْمَقْدِسِيِّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْكَرَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ، أَنَا مَحْمُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّيْرَفِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّايِغُ الْمَكِّيُّ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ، حَدَّثَنِي مَسْعُودُ بْنُ يَزِيدَ الْكِنْدِيُّ قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُقْرِئُ رَجُلًا، فَقَرَأَ الرَّجُلُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} مُرْسَلَةً، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا هَكَذَا أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كَيْفَ أَقْرَأَكَهَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: أَقْرَأَنِيهَا {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}، فَمُدُّوهَا.
هذَا حَدِيثٌ جَلِيلٌ حُجَّةٌ وَنَصٌّ فِي هَذَا الْبَابِ، رِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ». (النشر 1/316). وقد تابعه على الحكم على إسناده: الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/155، ط. مكتبة القدسي)، والسيوطي في «الإتقان» (1/333، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب).
لكن ما استدلوا به على الوجوب غير قوي، والترتيل معناه الترسل في الأداء كما في قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}.. [الفرقان : 32]، فلما تمنى المشركون نزول القرآن جملة واحدة، كان الرد عليهم ببيان الحكمة وبيان إنزاله منجما، قال ابن الجوزي: «قوله تعالى: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أي: كما أُنزلت التوراةُ والإِنجيل والزَّبور، فقال الله عزّ وجلّ: ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: أنزلناه كذلك متفرِّقًا، لأن معنى ما قالوا: لِمَ نُزِّل عليه متفرِّقًا؟ فقيل: إِنما أنزلناه كذلك {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: لنُقَوِّي به قلبَك فتزداد بصيرة، وذلك أنه كان يأتيه الوحي في كل أمر وحادثة، فكان أقوى لقلبه وأنور لبصيرته وأبعد لاستيحاشه، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} أي: أنزلناه على الترتيل، وهو التمكُّث الذي يُضادُّ العَجَلة»... (زاد المسير 3/ 320، ط. دار الكتاب العربي).
وهذا الوارد عن تفسير أئمة التفسير من السلف في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}.. [المزمل : 4]؛ قال ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيِّنْهُ بَيَانًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: اقْرَأْهُ قِرَاءَةً بَيِّنَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَرَسَّلْ فِيهِ تَرْسُّلًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَثَبَّتْ فِيهِ تَثَبُّتًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: اقْرَأْهُ عَلَى هَيْنَتِكَ ثَلَاثَ آيَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا. كما في تفسير البغوي (5/ 165، ط. دار إحياء التراث العربي). وقال البيضاوي في تفسيره (5/ 255، ط. دار إحياء التراث العربي): «اقرأه على تؤدة وتبيين حروف بحيث يتمكن السامع من عدها، من قوله: ثغر رتل ورتل إذا كان مفلجًا».
وأما أثر علي رضي الله عنه في تفسير الآية، فهذا لم نجده مسندا، وإنما يتناقله علماء التجويد في كتبهم. وعلى فرض صحته فتجويد الحروف لا يعني الالتزام بما خرج عنها من مد أو غن، ويقوي ذلك أنه في الأثر قال: (ومعرفة الوقوف)، والوقوف مع التصريح بمصطلحاتٍ يؤخذ من ظاهرها الوجوب أحيانا إلا أنه ليس مقصودا، كما هو مصرح به، قال ابن الجزري: «تَنْبِيهَاتٌ: (أَوَّلُهَا) قَوْلُ الْأَئِمَّةِ: لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَلَا عَلَى الْفِعْلِ دُونَ الْفَاعِلِ، وَلَا عَلَى الْفَاعِلِ دُونَ الْمَفْعُولِ، وَلَا عَلَى الْمُبْتَدَأِ دُونَ الْخَبَرِ، وَلَا عَلَى نَحْوِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا وَإِنَّ وَأَخَوَاتِهَا دُونَ أَسْمَائِهَا، وَلَا عَلَى النَّعْتِ دُونَ الْمَنْعُوتِ، وَلَا عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ دُونَ الْمَعْطُوفِ، وَلَا عَلَى الْقَسَمِ دُونَ جَوَابِهِ، وَلَا عَلَى حَرْفٍ دُونَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ، إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرُوهُ وَبَسَطُوهُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْجَوَازَ الْأَدَائِيَّ، وَهُوَ الَّذِي يَحْسُنُ فِي الْقِرَاءَةِ، وَيَرُوقُ فِي التِّلَاوَةِ، وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَلَا مَكْرُوهٌ، وَلَا مَا يُؤَثِّمُ، بَلْ أَرَادُوا بِذَلِكَ الْوَقْفَ الِاخْتِيَارِيَّ الَّذِي يُبْتَدَأُ بِمَا بَعْدَهُ. وَكَذَلِكَ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ حَيْثُ اضْطَرَّ الْقَارِئُ إِلَى الْوَقْفِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ قَطْعِ نَفَسٍ، أَوْ نَحْوِهِ: مِنْ تَعْلِيمٍ، أَوِ اخْتِبَارٍ؛ جَازَ لَهُ الْوَقْفُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَعْتَمِدُ فِي الِابْتِدَاءِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَوْدَةِ إِلَى مَا قَبْلُ فَيَبْتَدِئُ بِهِ، اللهُمَّ إِلَّا مَنْ يَقْصِدُ بِذَلِكَ تَحْرِيفَ الْمَعْنَى عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَخِلَافَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَ اللهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- يَحْرُمُ لَيْهِ ذَلِكَ، وَيَجِبُ رَدْعُهُ بِحَسَبِهِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ»... (النشر 1/230). فتبين بهذا عدم جدواه في دعوى الوجوب.
وأما أثر ابن مسعود، فقد ذكره سعيد بن منصور في تفسيره، قال سعيد: نَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ يَزِيدَ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُقْرِئُ رَجُلًا، فَقَرَأَ: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ» مُرْسَلَةً، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا هَكَذَا أَقْرَأَنِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ أَقْرَأَكَهَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}.. [التوبة : 60] فَمَدَّهَا. (تفسير سعيد بن منصور 5/257، ط. دار الصميعي للنشر والتوزيع).
وأخرجه الطبراني قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّائِغُ، ثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثنا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ يَزِيدَ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ رَجُلًا فَقَرَأَ الرَّجُلُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}.. [التوبة :60] مُرْسَلَةً، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا هَكَذَا أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}.. [التوبة :60] فَمَددها.
(المعجم الكبير 9/137، ط. مكتبة ابن تيمية- القاهرة).
وإنما سقناه بإسناده لوقوع خلاف في الإسناد، فالذي في «النشر» مسعود بن يزيد، والذي في التفسير ومعجم الطبراني موسى بن يزيد، وهو الصواب، وموسى هذا مالَ محقِّقُ «تفسير سعيد بن منصور» إلى أنه مجهول، ولو ذهبنا إلى أنه هو المذكور في ثقات ابن حبان فلا يظهر من ترجمته ملاقاته لابن مسعود، ولعل هذا سبب تعبير بعض الحفاظ بقولهم: رجاله ثقات، دون تصريحهم بأنه إسناد صحيح، ومعلوم أن توثيق الرجال لا يعني تصحيح السند؛ لما قد يكون هناك من انقطاع أو غيره من العلل الخفية.
وأما من ناحية المتن فلا يؤخذ منه أكثر من مشروعية أو استحباب القراءة بهذه الكيفية.
ومما ينبغي التنبه إليه في هذا الباب ما صرح به الحافظ ابن حجر في سياق تحريره لبعض مسائل التجويد بما يستحق أن يكتب بماء الذهب، قال الحافظ ابن حجر: «وَقَدْ شَاعَ فِي زَمَانِنَا مِنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ إِنْكَارُ ذَلِكَ حَتَّى صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِتَحْرِيمِهِ فَظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مُعْتَمَدًا فَتَابَعُوهُمْ وَقَالُوا: أَهْلُ كُلِّ فَنٍّ أَدْرَى بِفَنِّهِمْ! وَهَذَا ذُهُولٌ مِمَّنْ قَالَهُ؛ فَإِنَّ عِلْمَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إِنَّمَا يُتَلَقَّى مِنَ الْفُقَهَاءِ». (فتح الباري 9/38).
ومما تقدم يتبين أن التزام قارئ القرآن بأحكام التجويد الزائدة عن أصول نطق الكلمات العربية -والتي ترْكها لا يخرج الكلمات عن معناها الذي وضعت له في اللغة- غير واجب على أرجح الأقوال، وإنما هو أمر مندوب إليه، وإنما الواجب هو النطق بالكلمة كما ينطقها العربي ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا.