مى سمير تكتب : ناشيونال جيوجرافيك الأمريكية تدخل «وادى الموت» فى صعيد مصر
■ مصور مصرى حصل على منحة من أوروبا عاش مع عمال محجر فى المنيا أربعة أشهر وسجل معاناتهم وحياتهم ■ الموت لا ينتظرهم فى حوادث المحاجر فقط بل على الطرق السيئة المتعرجة ■ أول نقابة مستقلة لعمال المحاجر تطالب بتحديث آلات العمل لتخفيض حوادث الوفاة
نادرا ما تتسلل للصحافة أو الإعلام قصصهم، ليس لأنهم يعملون فى الغالب على أطراف المدن وفى الصحراء، ولكن لأنهم جزء من العالم المنسى، إنهم عمال المحاجر، ربما تجد خبرا من حين إلى آخر عن اضراب لعمال المحاجر فى مصر أو فى العالم أو قصة مثيرة كل عام أو عامين عن كارثة فى محجر أدت إلى وفاة عشرات.
ولكن مجلة أمريكية نشرت تحقيقا مصورا عن عمال المحاجر فى مصر
فعلى موقعها بالإنترنت نشرت مجلة ناشيونال جيوجرافيك الأمريكية هذا الأسبوع تحقيقا للصحفية بيكى هارلين عن محاجر مصر تحت عنوان (محاجر الحجر الجيرى المصرية الخلابة.. ولكن القاتلة)، يأتى التحقيق ضمن سلسلة دليل للمجلة الأمريكية وهى السلسلة التى تهتم فى المقام الأول بمعرفة القصة الكامنة وراء الصور الصحفية. تهتم السلسلة بقصة المصور الصحفى وحكايته مع الصور التى التقطها.
ولهذا اعتمد هذا التحقيق الصحفى على شهادة المصور المصرى محمد على الدين صاحب هذه الصور الخلابة.. التى نقلت تفاصيل الحياة فى المحاجر المصرية بتفاصيلها التى تجمع بين الجمال والقسوة فى نفس الوقت.
يبدأ التحقيق بوصف لمشهد نموذجى من قلب المحجر الجيرى فى المنيا يقدمه المصور الصحفى محمد على الدين الذى يؤكد أن الجو حار جدا حتى فى شهر ديسمبر ومن الصعب التنفس مع ارتفاع أعمدة الغبار، حيث تحذر ضوضاء أجهزة المطارق العاملين من أن الآلات السريعة والثقيلة قريبة. ويضيف المصور المصرى قائلا: "لا أحد يستطيع أن يسمع الآخر، عليهم جميعا أن يصرخوا".
زار محمد على الدين المحاجر لأول مرة فى عام 2009 بصحبة كاتب صحفى كان يعمل على إعداد كتاب. لم تستغرق هذه الزيارة الأولى سوى يومين، ولم يستطع التقاط الصور لأكثر من نصف ساعة قبل أن يضطر لاعطاء عيونه ورئتيه استراحة. ولكن هذه الرحلة الأولى للمحجر الجيرى فى قلب المنيا جعلته يقع أسير قصص العمال الذين يعملون فى تلك البيئة الملفتة للانتباه. فى ذلك الوقت، لم يكن لديه التمويل، أو الاتصالات أو الخبرة التى تمكنه من سرد القصة الصعبة لعمال المحاجر. لكن فى 2014، عاد محمد على الدين من جديد إلى المنيا بمساعدة منحة مؤسسة مانويل ريفيرا أورتيز للأفلام الوثائقية والأفلام. وبحسب الموقع الرسمى للمؤسسة فمن المنتظر أن يشهد عام 2015 معرضا للصور الكاملة التى التقطها لحياة 20 ألف عامل بالمحاجر.
فى الأشهر الأربعة التى قضاها فى تصوير المحاجر، تعرض ستة أشخاص على الأقل للقتل. ويقول على الدين، الذى يعيش على بعد حوالى 150 ميلا فى القاهرة، إن معظم الناس فى العاصمة لا يدركون على الإطلاق طبيعة هذه الصناعة الخطيرة. ويضيف: إنه لا يوجد أحد ينشر أى أخبار فى القاهرة أو المنيا عما يحدث فى المحاجر.
يقول على الدين إن مخاطر العمل تبدأ حتى قبل وصول العمال إلى الموقع. على العمال القدوم إلى المحاجر عبر طرق متعرجة فى شاحنات غير مخصصة فى الأساس لنقل الناس تسير غالبا بسرعة كبيرة، وهو الأمر الذى جعل من مجرد الوصول إلى مكان العمل واحدا من أكبر المخاطر التى يتعرض لها العمال. من أهم الأسباب الأخرى التى تؤدى إلى إصابة العمال الآلات القوية التى تستخدم لقطع الحجر الجيرى وكابلات الكهرباء العالية.
لا تزال الظروف خطرة كما كانت بعد زيارة على الدين الأولية فى عام 2009، لكنه يقول إن العديد من العمال أصبحوا أكثر وعيا للمخاطر. فى عام 2009، استمع على الدين لتبريرات العمال الذين كانوا يصفون المخاطر التى يتعرضون لها بأنها مصيرهم أو أنها مشيئة الله وأن عليهم تقبل الأمر. ولكنه عندما عاد فى عام 2014 سمع لهجة مختلفة فقد أكد له العمال، خاصة الشباب، أن الإصابات أو الوفاة ليست هى إرادة الله. وأكدوا له أن وفاة زملاءهم بسبب الآلات غير الآمنة، كما اشتكوا من أن أصحاب المحاجر لا يريدون إنفاق المال على تحسين الآلات أو جعلها أكثر أمانا.
ويتذكر على الدين رجلا يدعى مرعى مينا لم تفارق صورته ذاكرته فقد ساعده فى البداية فى لقاء العمال الآخرين والتحدث معهم وزيارة المحاجر. وكان عضوا فى نقابة عمال المحجر وهى نقابة مستقلة والأولى من نوعها تم تأسيسها بعد ثورة عام 2011. فى عام 2014 خطفت حادثة سير حياة مينا حيث لقى حتفه مع اثنين من عمال المحاجر أثناء طريقهم إلى العمل.
نظرا لأن العديد من العمال لا يعملون بشكل رسمى فى المحاجر، فإن الحصول على تعويض عن الإصابة أو الوفاة هو أمر صعب ويعتمد على المالك. على سبيل المثال، إذا كان صاحب المحجر يعيش فى المدينة نفسها التى يعيش فيها العامل المصاب، تزداد احتمالات دفع التعويض. ولكن عادة لا يسفر تقديم شكوى رسمية عن حصول العامل عن تعويض، حتى بعد سنوات.
يؤكد محمد على الدين أن هدفه هو زيادة الوعى، وصرح للمجلة الأمريكية قائلا "أتمنى أن تقوم الحكومة والمنظمات غير الحكومية بالمزيد من التدخل لتغيير هذا الوضع. ثم أضاف قائلا: إن الأمر قد يستغرق وقتا، إلا أنه من المهم تغيير الآلات غير الآمنة، إعطاء العمال معدات السلامة، ووقف إرسال الأطفال إلى المحاجر.
لكى يقدم هذه القصة شديدة الحساسية عن عمال المحاجر المصرية، كان من المهم أن يندمج المصور محمد على الدين فى قلب الحياة بالمحاجر المصرية، وفى هذا الإطار يشير إلى أنه كان حريصا على كسب ثقة العمال ولا يتحول فى نظرهم إلى مجرد صحفى لا يعرف عنهم شيئا أو يريد تقديم قصة سريعة عنهم قبل أن يعود إلى القاهرة. لقد انغمس على الدين فى حياة المحاجر وصنع حالة من الثقة المتبادلة مع الرجال. يؤكد على الدين أنه كان يتحدث معهم عبر الهاتف بشكل مستمر بل كان يتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعى مع بعضهم من الذين يملكون صفحات على الفيس بوك. ويشير المصور المصرى كيف قضى ليلة فى المحجر على الرغم من تحذير البعض له من أن المحاجر غير آمنة ليلا، ولكنه شعر بالأمان الكامل فالجميع كانوا أصدقاءه، حيث أكل وشرب معهم والتقط لهم الصور. كانت هذه الصداقة عنصرا شديد الأهمية فى صناعة هذه الصور، ولم يكن من الممكن بدونها أن تكتمل رحلته فى قلب المحجر الجيرى.
تضمن تحقيق مجلة ناشيونال جيوجرافيك عرضا لعدد من صور محمد على الدين التى تضمنت لقطات لتحميل العمال كتلا من الحجر الجيرى على شاحنة فى الساعة 10 مساء، حيث يعتمدون على أضواء الشاحنة وإنارة المشاعل للعمل فى الظلام. وفقا للعمال، تعرض رجل للقتل عندما صدمته شاحنة بينما كان يعمل فى الظلام فى وضع مماثل.
كما استعرضت صوره كيف يتم نقل العمال فى شاحنات نقل البضائع التى يجلس بداخلها من 10 إلى 20 شخصا فى الداخل. كما رصدت الصور قصص العمال الذين تعرضوا للإصابات ومن ضمنهم مينا ناجى الذى أصيب فى ظهره وساقه اليمنى فى حادث شاحنة أثناء ذهابه للمحجر، حيث انفجرت إطارات الشاحنة قبل أن تنقلب لثلاث مرات. وكما رصدت عدسته جمال المكان وقسوة ظروف العمل، رصدت أيضا علاقات الصداقة بين العمال الذى يجمعهم العمل داخل المحجر مع الساعات الأولى لإشراق الشمس.