العدو والصديق والشهيد ..إلى ابنى ياسين..
أحمد فايق
طوال عمرى كنت أحلم دائما أن اذهب إلى فلسطين أستنشق هواءها، ألمس جدرانها، اسير بين طرقات شوارعها، ففلسطين لم ولن تكون حلما بالنسبة للفلسطينيين فقط، بل تربينا على عشقها، تعلمت أن إسرائيل هى العدو وفلسطين هى حلم الحرية والتحرير.
فى 25 يناير 2008 تم تحطيم المعبر فى رفح، وأصبح الحلم قريباً، اتصلت بالزميل والصديق سيد المليجى وقلت له «نفسك تروح فلسطين؟»، فرد قائلا «أنا أرتدى الآن ملابسى»، ذهبنا بسيارتى إلى العريش، فى الطريق أغلقت قوات الجيش والشرطة كل الطرق المؤدية إلى سيناء، وأغلق نفق الشهيد أحمد حمدى، لم تسمح القوات سوى للسيناوية فقط بالدخول، فقد كانت سيناء محرمة على المصريين أتذكر أننى حينما كنت طالبا بالثانوية العامة، صدقت التليفزيون المصرى وأغانى من نوعية «سيناء رجعت كاملة لينا»، ولما ذهبت لشرم الشيخ مع صديق لى مررت على 14 كميناً أمنياً جعلونى ألعن اليوم الذى قررت فيه أن أزور سيناء بعد الفتيش والمهانة التى تعرضت لها.
هذه المرة لم نستطع المرور من التشديد الأمنى، حاولنا المرور عبر «المعدية» من القنطرة بعدما تسربت شائعات بأنها مفتوحة، وقبل الوصول للمعدية اصطدمت بى سيارة «نصف نقل» على الطريق السريع، وانقلبت بنا السيارة، ونجونا بأعجوبة، من صدمنا كان أحد بدو شمال سيناء، وفى قسم البوليس عقدنا معه صفقة أن نتنازل عن الإجراءات القانونية ضده، فى مقابل أن يوصلنا بطريقته إلى غزة، وبالفعل جاء قريب له بسيارة نصف نقل أخرى ومر على 40 كميناً أمنياً للجيش والشرطة، دون أن يلحظ أحد أننا ممنوعون من الدخول لسيناء، فالبدو يعرفون سيناء أكثر من جبالها، ولا تستطيع اى قوة أمنية منعهم، ولا يستطيع أحد قمعهم بقوة السلاح، فهم لا يريدون شيئا سوى الشعور بأنهم مواطنون مصريون، لهم الحق فى تملك الأراضى والمنازل ودخول الكليات العسكرية والقضاء والوظائف الممنوعة عليهم باعتبارهم مواطنين قابلين للخيانة، فهل هناك دولة فى العالم تعاقب شعبها على النيات أو حتى ماتتصوره أجهزتها الأمنية المريضة.
فى غزة أقمنا فى فندق بشارع عمر المختار وسط المدينة، تعاملنا كأننا سياح فاخترنا غرفة تطل على الشارع بسعر أرخص من الغرفة الداخلية، شعرنا بالاستغراب لكننا عرفنا فيما بعد أن مخاطر الغرفة المطلة على الشارع أكبر بكثير من مخاطر الغرفة الداخلية، سمعنا لأول مرة فى حياتنا صوت الطائرات الـ «إف 16» حينما تكسر حاجز الصوت وتحطم النوافذ، سمعنا صوت القنابل ورأينا الدماء وقوة المقاومة، مقاومة البسطاء والمناضلين الفلسطينيين، ومقاومة أحمد بحر رئيس المجلس التشريعى الفلسطينى، الذى عرض علينا فى مكتبه واحدة من أفخم أنواع الشيكولاتة وسط الحصار، معتذرا لأن الحصار حرمه من نوع آخر أكثر فخامة.. .!
وقتها كانت مباريات كأس الأمم الأفريقية، شاهدت على مقهى شعبى كل مباريات المنتخب المصرى، اكتشفت أن نصف مواطنى غزة أهلاوية والنصف الآخر زملكاوية، يعشقون تراب مصر مثلما ندوب حبا فى فلسطين، ينتظرون منا الكثير، ويقدروننا ويحترموننا، يفصلون بين الخونة الذين يحكموننا وبيننا كشعب، الموت بالنسبة لهم أصبح مثل طبق الفول الذى نتناوله يوميا فى السحور، عشت فى حصار غزة، وجدت اقتصادا كاملا وبيوت آلاف من المصريين والفلسطينيين مفتوحة من تجارة الأنفاق، فهم ليس لديهم منفذ آخر غير رفح، والحكومة المصرية منعت التجارة الحلال، وسمحت بكل شىء غير مشروع، ازداد حبى فى فلسطين، فهى تستحق الحلم، لذا فقد دمى قلبى حينما رأيت بعض السفهاء يدوسون باقدامهم على علم فلسطين، وبعض الإعلاميين الذين يصورون لنا أن فلسطين هى العدو وإسرائيل هى الصديق.
هم أنفسهم يصورون لنا أن الثورة لعنة نزلت على أرض مصر، ويصفون من يختلف معهم بأنهم مندسون وعملاء، يشوهون فى خيرة شباب مصر، يتاجرون بدماء شهداء رفح، وهم يعلمون أن هؤلاء الشهداء لم يجدوا واسطة لنقلهم إلى معسكرات بعيدة عن سيناء، يعرفون جيدا أن هؤلاء الشهداء كانوا يستطيعون تقديم عمرهم عن طيب خاطر من أجل مصر أو من أجل تحرير فلسطين، لكنهم للأسف قدموا أرواحهم بشكل مجانى، فما حدث فى رفح كان يعرف به العالم كله قبل حدوثه بيومين من تحذيرات الإسرائيليين، إلا أجهزة الدولة المصرية التى عرفت وصمتت وتواطأت، المسئول عن دماء شهدائنا ليس فقط من قتلوهم، بل من صمتوا وأهملوا عن قصد أو عن حسن نية، وكانوا يعرفون وقرروا استخدام الحادث الإرهابى فى تحقيق مكاسب سياسية، المجد لشهداء الثورة ومحمد محمود وماسبيرو ومجلس الوزراء العباسية ورفح وفلسطين والثورة مستمرة.