احمد يونس يكتب : كـائنات فيسبوكية

مقالات الرأي



الرفاق حائرون. يتجادلون. يتشاتمون. يتخانقون. يتجاذبون من الثياب ويبصقون. هناك فى غياهب الفيسبوك، يتقوقعون. هناك حيث لا مطر، ولا شجر، ولا قمر. هناك حيث لا خطر. هناك حيث لا رقــابـة، أو مخبرون، بالجزمة الميرى، والبالطو، والجريدة المثقوبة. هناك حيث لا قنابل، أو سـيارة مفخخة، على النواصى فى الطــريق العام. أو عملية اغــتيال بالرصاص الحى فى قــلب الزحام، لكل مـن يتجرأون، على انتقاد مـن يحكمون، أو قادة الإرهاب المتهوسون. الرفاق قابعون. متشرنقون. متربصون. متشرذمون. يتساءلون. عن كـــل ما يجرى فى جنون: عن انخفاض منسوب الكرامة والأمان. عن أحلام الحرية وحقــوق الإنسان. عن محنة السواد الأعظم الفقير. عن عودة العصابة التى بلا ضمير. ويصرخون. بأعلى صوتهم هم يلعنون. ويهتفون. هناك فى جوف الظلام يهتفون: المجد للأطفال والزيتون. المجد للثوار والتحرير. يتفرغون كلهم إلـى التنظير. يطالبون بالمشانق لمن تسببوا فى كـــل هـذا الدم المسفوك. لكنهم نادراً ما يفعلون هذا خارج الفيسبوك.

أنا فى الحقيقة لا أعرف ما الذى دفعنى لكتابة ما سبق. لماذا بما يشبه الشعر؟ هل هو الغضب من أغــلب الرفاق الذين أصبحوا يعيشون فى الترلملم؟ أم أن السبب يرجع إلى تعاطفى الشديد مع مأساتهم، خاصة أنهم لا يشعرون بها؟ هم على وجه التحديد مـن يهموننى، فالآخرون يشغلنى أمرهـم بدرجةٍ أقل.

ذات يوم، تخيلوا، وأنا منهم، أن الكرة الأرضية فى انتظار أن يطهروها من الاستغلال، وأنهم سيدخـلون المـدن المقـهورة على رأس الجماهير فى مواكب النصر. لكن الحلم استحال كابوساً، فملؤوا الحقائب بالتصاوير الملونة كألعاب الأطفال. ملأوها بذكريات الزمن الذى مضى، لينقذوها هناك بعيداً من الطوفان. أسقطوا من حقائب الذاكرة كـل مـا يبعث على الإحساس بضياع العمر هباءً. أسقطوا من حقائب الذاكرة كـل مـا يقلل من لذة الشـعور بالرضا عن النفس أو يعكر صفو الضمير. تخلصوا من الوزن الزائد، فكانت النتيجـة أن اختفى كل ما قد يحتاج إلى التعديل أو المراجعة. حالوا بذلك دون إمكانية التعلم من الخطأ.

استوطنوا الفيسبوك. لاذوا بالفرار إلى الواقع البديل. أصبحوا نوعاً من الكائنـات الفيسبوكية. لا أحد سواهم يسمع ما يقولونه. يتقاذفون بالمصطلحات الزجاجية المكسرة إلى أن تطمس الجراح تقاطيع الوجوه، ويندفع الدم من الفم والعينين. وبدلاً من حرب الشوارع، صموداً من بـيت إلى آخر، أصبحوا يخوضون المعارك فى الجروبات. إفرازات الأنف السايب والفم المفشوخ تتأرجح على ياقات القمصان. لولا الزى، لبدوا كالدراويش فى موالد القرى. شـعرهم تسكنه بكتيريا السراديب الرطبة. وعلى جباههم غبار المخـازن المختومـة بالشمع الأحمر. كالأشباح التى لا تستريح إلا فى خرائب المدن، أصبحوا يظهرون على فترات متباعدة. صاروا يتخيلون دون أن يغادروا المنفى السحيق أن الكرة الأرضية مازالت فى انتظار أن يطهروها من الاستغلال، وأنهم سيدخلون المـدن المقـهورة على رأس الجماهير فى مواكب النصر. لا النفتالين أو حتى الديديتى أضحى قادراً على تطهير السرداب الغائر فى مملكة التخيل. اعتادوا على استنشاق الهواء الفاسد الذى يمتزج بالعفن فى الأماكن المغلقة لأزمنةٍ طويلة. البعض يطلون أحياناً على ما يجرى فى الحياة، ليعودوا مرةً أخرى إلى العالم الافتراضى الأجمل. هناك، يتكومون إلى جوار الحوائط الوهمية متخذين وضع الأجـنة فى بطـون الأمـهـات!

الفيسبوك، ما هو إلا طريقة فى التواصل. ليس كهفاً نأوى إليه بأحلامنا المهزومة. يا إخوتى الذين هاجروا إلى مغارات الحنين! أوحشنى كثيراً أن أراكم هنا تحت شمس الألم الحقيقى الذى بلا نهاية. يا إخوتى الذين فضلوا أن يكون الصندوق الأسود هو عنوانهم المختار! لا شىء فى الدنيا ينوب عن المصافحة. لا شىء فى الدنيا ينوب عن الـ: مصافحة.