منال لاشين تكتب : الحانوتى
بعد الرقص على حبال السياسة يتورط الأستاذ هويدى فى الرقص الإخوانى على دماء الشهداء
لكل مهنة شريفة قيمتها واحترامها بل وجمالها، مادامت هذه المهنة تؤدى وظيفة مهمة لا يمكن للبشرية الاستغناء عنها، ولذلك لا أجد عيبا فى مهنة الحانوتى إلا كونها مهنة تقوم على تحقيق مكسب من موت الناس، إنها أحد أنواع البيزنس الشريف لولا أنه تجارة وبيزنس فى الموت، بالطبع لا أحدثكم عن مهنة الحانوتى من وحى ما جرى من قتل غادر وجبان لأبنائنا شهداء داعش فى ليبيا، ولكن من وحى مقال قرأته للكاتب الكبير فهمى هويدى فى جريدة الشروق، ونادرا ما يوحى لى قراءة مقالات هويدى بهذا الاقتباس الحزين، ولكن مقاله «أكان يمكن إنقاذهم» وضعنى قهرا أمام هذا الصورة.
فى هذا المقال الذى نشر صباح يوم ذبح أبنائنا يقدم فهمى فى أسلوب مراوغ سياسياً تحليلا لحادث اختطاف المصريين، وبعد الإدانات القوية لداعش وأسلوبها فى القتل تبدأ المراوغة عن الدور المصرى لإنقاذهم أو بالأحرى تكاسل الحكومة والنظام وفشله فى إنقاذهم. يحاول فهمى أن يفصل بين حكومة داعش فى درنة، وحكومة الإخوان فى طرابلس، ويصل فهمى إلى أن تورط السلطة المصرية مع حكومة طبرق واللواء حفتر قد أدى إلى قطع العلاقات مع حكومة طرابلس وهو ما أضاع فرصة التواصل مع الحكومة الليبية ومن ثم احتمال إنقاذ المصريين الـ21، ولكى يصل لهذا التحليل الخاطئ والخطير يحدثنا كثيرا عن أخبار عن مصادرة الخاصة المجهولة والتى تؤكد نفس الفكرة.
الأستاذ فهمى هويدى إخوانى ولكنه لا يعترف بأنه تنظيمى وهو مع رابعة ولكنه لا يعترف مثل الإخوان أن ثورة 30 يونيو انقلاب، وهو يستخدم مهاراته وأسلوبه وتحليلاته للوصول لمعتقداته الإخوانية دون التورط صراحة فى رفع راية التنظيم الدولى.يحدثك مرة عن رابعة ومأزق رابعة فيأخذك فى حارة سد لتجد نفسك أمام حديث مقحم بإتقان عن مذابح الأرمن، وهى مقاربات غير منطقية أو حتى صحيحة إلا فى عقل الأستاذ فهمى الإخوانى.
لقد اعتاد الأستاذ فهمى هويدى أن يمسك العصا من الوسط وأن يجيد اللعب على الحبال الفكرية والسياسية، ولكن فى حادثة ذبح أولادنا لم يفرق الأستاذ هويدى بين الرقص على الحبال والرقص على دم الشهداء، فليس هناك ذنب أو خطأ أسوأ من أن تحاول تحقيق مكسب سياسى أو فكرى أو عقدى على أجساد ذبحت غدرا وخسة.. غرباء على أرض ليس أرضهم، ولصالح قضية لا تخصهم ولا ناقة لهم فيها ولا جمل.
ومثل هذه القضايا لا يصح أن تكون فرصة لضرب «أسافين» فى السلطة المصرية التى لا تعجب الأستاذ فهمى هويدى، وهذا بالطبع حقه الدستورى والسياسى والإنسانى، فالاختلاف من طبائع الأمور وسنة الحياة، ولكن استغلال هذا الاختلاف حين تغتال الحياة نفسها شيئا مقززاً وسخيفاً ولا يليق بكاتب صغير أو كبير.
فى مقاله يتناسى هويدى أن يشير إلى أن دولا كثيرة لا علاقة لها بالصراع الليبى قد فقدت أبناءها غدرا على الأيدى القذرة لتنظيم داعش الإرهابى، فالقضية ليست فى علاقة النظام المصرى بحكومة الإخوان فى طرابلس، بل بالطبيعة الخسة الدموية الجنونية لتنظيم داعش الإرهابى، ولكن الأستاذ هويدى يورط دون قصد حكومة أصدقائه فى طرابلس، فإذا كان لحكومة طرابلس أى يد عليا أو مقدرة على إنقاذ أبنائنا فى ليبيا فما الذى جعل هذه الحكومة الصديقة لفهمى تتقاعس عن الاتصال بداعش وإنقاذ المصريين، ولماذا تناسى فهمى هويدى أن أصدقاءه فى قطر وتركيا لم يسارعا بالاتصال بداعش والخطوط بينهم مفتوحة لإنقاذ المصريين.
أعتقد أن الإجابة أن المقصود هو اغتيال غادر ومصور لأبنائنا، اغتيال مهين يصدم الشعب المصرى ويفقده الثقة فى السلطة المصرية، ويفتح باب جهنم بأسئلة ترتدى ثوب البراءة، أسئلة من نوع «أكان يمكن إنقاذهم» وتحليلات من نوع الفشل المصرى فى التعامل مع القضية، وكأن مجرد الخضوع لحكومة الإخوان فى طرابلس هو يريح أعصاب الأستاذ فهمى.. المهم كسر عزلة الإخوان داخل وخارج ليبيا.
هذا المعنى تحديدا يبدو أكثر وضوحا فى مقال الأستاذ فهمى هويدى فى اليوم التالى وبعد تأكد مقتل أبنائنا، وبعد الضربة الجوية الناجحة والتى أبردت صدور المصريين وأعادت لهم الإحساس بالكرامة، وهنا تتجلى مهارة الأستاذ هويدى فى المراوغة ودس السم فى العسل أو بالأحرى دس السم على دماء المصريين التى سالت فى ليبيا، فهويدى لا ينكر أن الضربة كانت موفقة كرد ضرورى وحتمى على بشاعة ما حدث، ولكن يعود إلى المراوغة، فيذكرك بأن هناك مليوناً مصرياً فى ليبيا، وأن الضربة حتى لو حققت أهدافها فليس هناك ما يمنع من رد فعل انتقامى أو تكرار الحادث.
ومرة أخرى يتجاهل الأستاذ فهمى هويدى أن داعش كانت ستكرر فعلتها الخسيسة والدنيئة بضربة جوية أو بغيرها، وأن داعش نموذج توسعى معتدى يهدف إلى السيطرة على أراضى ودول المنطقة وإلى قتل المواطنين من شتى الجنسيات سواء من شاركوا فى ضرب داعش بسوريا والعراق أم لم يشاركوا.
وهذا التجاهل من الأستاذ هويدى لا يتم بالطبع عن سوء فهم أو نقص فى مهاراته التحليلية، أو قدراته الذهنية أو العقلية.
فالأستاذ هويدى لا يعانى من خلل فى التحليل أو تقدير الأمور، ولكن الخلل الرئيسى فى استخدامه لقضية دماء الشهداء للوصول إلى هدف سياسى آخر أبعد مما حدث فى ليبيا، فهويدى يريد أن يصل إلى أن القوة العسكرية لا تصلح لإنهاء الأزمة وهو فى ذلك يشير بشكل مباشر إلى الحالة المصرية، فالقوة الأمنية ليست الحل لا داخل ليبيا ولا خارجها، لابد من حل سياسى وإلا سنستمر فى هذه الدوامة الجهنمية من العنف، على بلاطة الحل السياسى هو الحل، والحل السياسى يعنى الحوار مع إخوان ليبيا وإخوان مصر، على بلاطة المصالحة، هذا التفكير هو الذى يسيطر على الأستاذ هويدى ومقالاته، ويجعله أحيانا يرتدى ثوب الشماتة فى بعض أحداث العنف والإرهاب، ولكنه يرتدى فوق بدلة الشماتة عباءة الحكمة وليس هناك أدل من ذلك سوى نهاية مقاله الثانى والذى أترككم مع كلمات الأستاذ فهمى نفسها، يقول فى مقاله:
«وأزعم أن هؤلاء يسقطون الحالة المصرية على الليبية ويتعاملون مع الملف الليبى انطلاقا من نهج الخصومة والإقصاء المطبق فى مصر. وهذا الإسقاط هو بداية الخطأ فى النظر السياسى للموضوع، لأن العلاقة بين الطرفين هناك مختلفة جذريا عن الوضع السائد فى مصر. ثم إنه من الثابت أن أيا منهما لم يستطع أن يلغى الآخر ويخرجه من الساحة الليبية، إذ لكل منهما حضوره وقواعده على الأرض التى لا يستطيع الآخر تجاهلها، ولذلك فلا مفر من تفاهم يجمع الاثنين ويسعى إلى إيجاد حل يعيد الأمن والاستقرار إلى الربوع الليبية، لأنه مالم يتحقق ذلك فإن الجماعات الإرهابية داعش وغيرها ستظل ترتع فى البلد، وستظل مصدر تهديد للسلم الأهلى فى ليبيا وللأمن القومى المصرى.
هذا تفكير سريع فى المخرج الموازى الذى يكمل دور الحسم العسكرى، ويحاول أن يجعل للسياسة دورا فى حل الإشكال، أما إذا قررنا أن نخاصم السياسة فى داخل مصر وخارجها فينبغى ألا نستغرب إذا دفعنا ثمنا باهظا لقاء ذلك».