أحمد يونس يكتب : الوباء بدأ بعضة حسن البنا
بالمفتشر كده: ما حدث لواحــد وعشرين مصرياً من شهداء لقمة العيش فى ليبيا، أخطر من أن نكتفى حياله بالفرجة أو التأمل، كما لو أنه يقع هناك بعيداً فى تاهيتى أو نيكارجوا. انشغل الجميع بكميات الدم الذى يراق، لا بالطريقة الوحشية التى يراق بها، ولا بالطبيعة المشوهة لمن يصدرون الأوامـر أو يحرضون أو يمولون أو ينفذون. لا أحد انتبه إلى أن ما يجرى فى الواقــع يرتد بالحياة إلى ما قبل عصور الآدمية. ما أعتقده أنا شخصياً، ولا أسعى إلى إلزام أحــد بوجهة نظرى، أن ما فعلته الثورة هو أنها قامت بفتح الدمـل. ولم يخطر على بـال أحــد أن بداخله كـل هذا الصديد، فكانت النتيجة هى الانتشـار السـريع بواسطة الإخوان لواحــد من أشــرس الأوبـئـة التى استشرت بين أتباعها: السعرنة التى بدأت بالعضة الموبوءة بأنياب حسن البنا فى 1928.
وقد ثبت بالدليل العلمى أن عضة الذئب تصيب مراكز المخ بالتلف، وأن الـذئب يحتل مرتبة بالغة التدنى بالمقارنة مع الكلب فى سـلم التطور. كذلك فلقد ثبت بالدليل العلمى أن الكلب يصبح سعراناً حين يتعرض إلى عضة ذئب. الفيروس المــدمــر- الذى يسرى مع هذه العضة الانتكـاسية فى عروق الكلب المسالم، ليضرب مراكز المـخ فى دماغه- هـو المـسـئول الأول عن تلك السقطة الفجائية المرعبة فى ليل الاستذئاب. يكون الكــلب المنزلى أو الضال قد أصبح سعراناً بالفعل عندما، بدلاً من النباح، يعوى، مـطـلقـاً تلك الصـرخـات النحــاسـية المـتقـطعـة. نتأكد من أنها ليست سوى كلاب سعرانة، كلما بدا أن تلك المخلوقات أصيبت بالشبق إلى القتل والسحل والتحرش بالسيدات فى وضح النهار. نتأكد من ذلك كلما بدا أن تلك المخلوقات أدمنت قطع الرؤوس أو التمثيل بجثث الضحايا. المحرك الغريزى لهذه المخلوقات الخربة من الداخل هو النهم الجنونى إلى سفك الدماء. العضة السيد قطبية، زادت من فداحة المرض. كأجدادها من الذئاب، لا ترتوى الكلاب السعرانة أبداً من مص الدم. الكلب عـندمـا يعــتريه، بالضبط أيضاً كالذئاب، خوف جنونى من ظله الذى يتصور هو أنه يلاحقه عامداً أينما ذهب، وأنه لابد أن يكــون طرفاً فى مــؤامرة يدبرها أعداؤه له. وقد سيطر عليه هاجس -يأبى الانصراف- بأن هذا الظل سينتهى لا محالةـ بافتراسه. خوف جنونى من النار التى يتدفأ عليها القرويون أو المهمشون فى عشوائيات المدن الأشـبه بمعسكرات الاعتقال، أو فى مواجهة الضوء الغائم الذى يتسرب من نـوافـذ عــشـش الصــفـيح. ما يدفع إلى الدهشة حقاً هو أن الإنسان- إذا عضه كلب مسعور- بدأ فى المشى على أربع، فضلاً عن ظهور سائر الأعراض الغريبة الأخرى عليه. عندئذ، يكون الإنســان هو أيضاً قد هوى فى الفراغ نحو أزمنة الاستذئاب.
أظـن أن داء السعار بشكله التقليدى المتعارف عليه طبياً ليس بالقطع هو الوحيد. مظاهر السـعـرنة أكثر فى الواقع من أن تحصى أو تعـد. قطعان العضـاضـين من الكلاب السـعـرانة المعـدلة جينياً تختلف عن السلالات التقليدية ليس فى الشكل فقط، إنما كذلك فى أنها بالإضافة إلى الأجساد، أصبحت تغوص بأنيابها فى مساحات البهجة أو الشجن أو مواطن الحلم أو التذكر أو القدرة على العشق. الشوارع تعج بالكلاب السعرانة، ولا يمنع العـين الخــبيرة من أن تمـيزها سوى الاعتياد. تراها العين الخبيرة فى حاخامات التكفير أو أعداء الحرية أو الإبداع.
المأساة الحقيقية تكمن فى أن كـل الأمصال أو الكــمامات ما عادت تجدى، وأن جميع تلك الكلاب السعرانة مازالت تحتفظ خارجياً بملامح البشر. هنا على وجه التحديد تكمن المأساة الحقيقية. هنا، على وجه التحديد.