قصة : وانبلج الليل

أخبار مصر


((الساعة الآن الرابعة صباحاً، وعما قريب سيؤذّن الفجر… إلى متى ستبقى على هذه الحال يا أخي؟ إلى متى؟)) لم يُجبْها بل اتجه صوب غرفته وهو يترنح تحت تأثير المسْكِرات والمخدرات التي أفرط في تناولها الليلة… تعبت أصابعه من البحث عن زر النور، فتوقف عن المحاولة وخاطب نفسه قائلاً: ((وما الجدوى؟ لقد أَلِفت العيش في الظلام… ))

ارتمى على سريره دون أن يكلّف نفسه عناء خلع ثيابه، وشقّ عناء السماء نداء ((الله اكبر الله أكبر حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة خير من النوم))، وضع يديه على أذنيه حتى لا يخترقها صوت الأذان… وعندما توقف المؤذّن ألقى برأسه على الوسادة وجسده يتصبّب عرقاً… أخذ يبكي ويضحك حتى أجهده التعب فنام؛ أما شقيقته فما زالت عينها ساهرة تفيض بالدمع.. وأكفّها مرفوعة تتضرع إلى الله تعالى: ((اللهم اهدِ أخي… اللهم اهدِ أخي… اللهم اهدِ أخي)).

ألقى عليها تحية الصباح… وأخذ يسترق النظر إليها متسائلاً: ((تُرى هل ردّت التحية؟))… جلس على الكرسي وأخذ يراقبها وهي تجهز الطعام… سكون مطبق يخيِّم على المكان فحاول كسر حدّته: ((لماذا لم تردّي التحية؟ ما بكِ اليوم؟)).

نظرت إليه نظرة ملؤها الاشمئزاز وأجابت: ((الساعة الآن الخامسة عصراً .. بعد قليل سيحين موعد الإفطار)).

أطرق نظره أرضاً وأردف قائلاً: ((كنت أريد أن أقترض منكِ بعض المال؟)).

كان سؤاله الشعرة التي قصمت ظهر البعير فاندفعت الكلمات خارجة من فمها: ((ومن أين آتيك بالمال؟ بدل أن تقترض مني ابحث لك عن عمل لأني تعبت…. فأنا أعمل من الصباح إلى المساء كي أعيلك وأعيل إخوتنا وأعيل نفسي، وعندما آتي إلى المنزل تنتظرني الأعمال المنزلية… وأنت… لا ترحمني.. ولا تخفّف عني بل تطالبني بالمزيد من المال لتنفقه على ملذاتك.. على السُّكر والعربدة! يا ويلك من الله .. يا ويلك من الله حتى هذه الأيام القليلة المتبقية من هذا الشهر الفضيل لم تراعِ حرمتها… ))

أصابه خوف شديد وهو ينظر إلى أوداجها المنتفخة… هذه هي المرة الأولى التي تفقد فيها أعصابها بهذا الشكل الهِستيريّ… الملاعق والصحون والسكاكين وكل ما تطاله يدها من أدوات المطبخ أخذت تندفع صوبه كالمدفع الرشّاش فأصابه بعضها بجرح بسيط في الجبين ممّا اضطره إلى مغادرة المنزل.

أخذ يذرع الطريق ذهاباً وإياباً دون هدف… صادف مرور صديقه طارق بسيارته، فتح له باب السيارة داعياً إياه إلى الصعود وابتسامة عريضة تلوح على شفتيه: ((سنراك الأسبوع المقبل أليس كذلك؟ وسنرى معك الـ500 دولار؟ فالمفاجأة الشقراء سعرها مرتفع… ))!!

((المفاجأة الشقراء؟!! آه آه تذكّرت)) واستغرق وليد وصديقه في ضحك ماجن… ((طبعاً طبعاً سأحاول تأمين المبلغ بأسرع طريقة ممكنة)) وهمس لنفسه: ((ولكن من أين سأحصل عليه… ؟؟)) هذا السؤال ظلّ يلح عليه لأيام إلى أن زيّن له الشيطان سرقة الأموال التي كانت تحتفظ بها شقيقته لشراء ثياب عيد الفطر لها ولإخوتها… شعر أن مشاعره تحجّرت عندما رآها تبكي بلوعة المال الذي فقدته ((أين ضميرك؟)) قال له طارق وهو يعدّ المبلغ الذي أعطاه إياه وليد: ((رحمه الله؛ فضميري مات يوم وفاة أخي)).

وكما اتفقا توجّه آخر يوم من رمضان إلى بيت صديقه ليحتفلا بعيد الفطر على طريقتهما الخاصة وما أن وصل إلى الباب حتى أخذ يحدّث نفسه: ((ليلة حمراء مع كأس وشقراء غانية وجرعة مخدرات ستنسيني كل شيء))…. صوت ضحكتها الفاقعة ووجهها المليء بالأصباغ أصابه بالغثيان ومع ذلك جذبها إليه قائلاً: ((أريد النسيان.. أريد النسيان.. ))

فهمست: ((سأجعلك تنسى اسمك))

((الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ))

جفلت حينما هبّ من سريره مذعوراً وأخذ يصرخ كمن أصابه مسّ: ((أغلقي النافذة… أغلقيها)) فسارعت لتلبية طلبه وهي تمتم: ((حسناً، حسناً سأفعل ما تريد، ولكن هدّىء من روعك)) أغلقت النافذة بسرعة وعيناها ممتلئتان رعباً عندما رأته بتلك الحالة المزرية… ((قلت لكِ أغلقيها.. أغلقيها هل أصابك الصمم؟…))

أجابت بصوت مبحوح:((لقد أغلقتها))

كان صوت الآذان يدخل بالقوة إلى مسام جسده يهزّها بعنف…((كاذبة… كاذبة)) انقضّ عليها كالوحش الكاسر يشبعها صفعاً ولكماً حتى انهمرت الدِّماء من أنفها؛ فوقعت على الأرض مغشيّاً عليها… فتح باب المنزل وليس عليه سوى بنطاله… وأخذ يجري لا يعرف إلى أين.. لم تعد قدماه تقويان على حمله فخرّ على الأرض… شعر أن قلبه سيتوقف عن الخفقان عندما وجد نفسه قِبالة المسجد الذي فارقه من زمن… أخذت الدموع تتقاطر من عينيه وهو يراقب النور الذي يحيط بالمكان بينما هو قابع وحيداً في الظلمة … سمع تكبيرات العيد … رأى جموع المصلين – الذي كان يوماً منهم – وهم يلجون… لمح إمام المسجد الذي كان يطارده من مكان إلى آخر ليعيده إلى جادة الصواب… مدّ إليه يده وأخذ يناديه بصوت مبحوح: ((شيخي.. شيخ… شي..))، وغاب عن الوعي…

عندما استيقظ وجد نفسه في غرفة صغيرة تحوي متاع قليل، فعاودته النوبة من جديد؛ فأخذ يصرخ بصوت هستيري وهو يحكّ جسده بأظفاره … يستجدي جرعة من المخدرات…وعندما لم يردّ عليه أحد أخذ يطرق باب الغرفة بشراسة… لم يشعر إلا ويدان قويتان تحكمان إمساكه ويد أخرى تعطيه جرعة دواء…بعدها شعر بالتراخي وفقد الوعي من جديد… ظلّ على هذه الحال أسابيع تنتابه نوبات قوية نتيجة إدمانه على المسكرات والمخدرات، فلا يشرب إلا الدواء ولا يأكل إلا النذر اليسير من الطعام ولا يسمع إلا تلاوة عذبة لآيات من القرآن الكريم لم يميّز قارئها من شدّة الإعياء.

وبدأ يسترد عافيته رويداً رويداً، وفي تلك الغرفة صور من الماضي بدأت تطفو على سطح ذاكرته… تذكّر يوم طلاق والديه الذين لم يكلفا نفسيهما عناء تحمّل مصاريف أولادهما … تذكّر يوم ترك المدرسة رغم تفوقه لاضطراره للعمل ليعيل إخوته… تذكّر أخته التي تكبره ببضع سنوات التي تفرّغت لأعمال البيت ولرعاية إخوتهم الصغار، تذكر بارقة الأمل التي كانت تلوح في حياته (سعاد) التي سرعان ما انطفأت؛ عندما رفض أهلها أن ترتبط به لأوضاعه الصعبة ولكونه رب أسرة… أكثر ما آلمه حينما تذكّر أنّ الأرض تضيق عليه بما رحبت ولكنها كانت تتسع كلما لاذ بالمسجد… يبوح لإمامه بهمومه ومشاكله… فيخرج من عنده وهو أشدّ صلابة وقوة.

تلمّس الجرح الذي تركه الصحن على جبينه وابتسم: “كم قاسيتِ وكم صبرتِ وكم نصحتِ وكم ضحيتِ”، وبسرعة لاحت صورة شقيقته إلى ناظريه وتذكّر الحوار الذي دار بينهما منذ سنوات: ((أنظر أخي… سأتفق معك على أمر… ولكن أتمنى أن توافق))

((ما هو؟))

((لقد عُرِض عليّ عمل جيد وبمرتب مناسب يمكنه أن يزيد من دخلنا… هكذا نستطيع أن ندخر قسماً من المال ندفعه قسط لإحدى الشقق… هكذا ربما يوافق أهل سعاد))

((اصرفي النظر عن الموضوع… ))

((ولماذا؟))

((من سيتولى العناية بالصغار؟!))

((سناء ستبلغ الثالثة عشرة قريباً، يمكنها أن تخفف عني الكثير من الأعمال المنزلية)).

تذكر عندما وقعت الكارثة التي لم تكن بالحسبان حينما طُرِد من عمله فلم يستطيع إكمال التقسيط وحتى تزيد الطين بِلّة اضطر لبيع الشقة أما ثمنها فدفعه كاملاً علاجاُ لأخيه الصغير الذي أصيب بمرض عضال لم يُمهله سوى شهور قليلة.

تذكر كيف اسودت الدنيا في عينيه… فزهد في كل شيء حتى المسجد قلّ ارتياده له.. وانقطع نهائياً عندما صاحب بعض رفقاء السوء الذين عرّفوه على الخمرة والمخدرات والزنا… شعر بإعياء شديد من هذه الذكريات فأغلق عينيه عليها وغاب في سُباتٍ عميق.

استفاق على يدٍ حانية توقظه، ظلّ لبرهة يحدق في الوجه المبتسم، وأخيراً عرفه ((… شيخ عبد الرحمن؟)).

- ((انهض ولدي وتناول الغداء فجسدك بحاجة له الآن)).

- ((نعم شيخي… جزاكم الله تعالى عني خير الجزاء)).

أخذ يتأمل الغرفة التي مكث فيها الشهور الثلاثة الماضية التي كانت تقع بإحدى زوايا المسجد…. غرفة شهدت رحلة علاجه من المخدرات والمسْكرات ….كان الطبيب الوحيد الذي أشرف على علاجه الجسدي والروحي هو الشيخ عبد الرحمن إمام المسجد … المواعظ التي كان يلقيها عليه يومياً جعلته يبكي كالأطفال بين يديه، واخترق صوت الشيخ عبد الرحمن قلبه حينما دعاه قائلاً: ((اليوم الجمعة… اغتسل ولدي لأنك ستشهد الصلاة معنا اليوم))

* * * * * * * * * * * * *

بعد (ثمانية عشر) عاماً دخل الشيخ إلى الغرفة وهو يحمل بيده طعام الفطور، وما أنّ همّ بالخروج حتى أمسك الشاب بتلابيب ثوبه قائلاً: ((… شيخي لا تتركني أرجوك))

((لن أتركك يا ولدي.. بل الله تعالى لن يتركنا أبداً))

أغلق الشيخ الباب بهدوء… نقل نظره بين هدايا عيد الفطر الكثيرة التي وضعها في الزاوية وبين ولديْه ثم خاطبهما قائلاً: ((بعد صلاة الفجر بإذن الله ستحملان كل هذه الأغراض لأولاد أعمامكما وعماتكما… وسألحقك بكما بإذن الله تعالى))

ترقرق الدمع في عينيه وهو يرقب جموع المصلين التي أخذت تتوافد إلى المسجد لصلاة الفجر وهمست شفتاه: ((الفضل لله أولاً ثم لك على ما أصبحتُ عليه الآن… رحمك الله رحمك الله وأسكنك فسيح جنّاته)) وعاد الشيخ (ثمانية عشر) عاماً إلى الوراء… إلى يوم الجمعة الذي شهد ولادته من جديد على يد شيخه عبد الرحمن فمن يومها لم يفوِّت صلاة جمعة ولا جماعة، ولم يكتفِ وليد بذلك بل لم يغادر مجلس علم إلا وواظب عليه ولا كتاباً دينياً إلا وتصفّحه، وبتشجيعٍ من شيخه دخل إحدى الكليات الشرعية وتفوّق فيها ولم يقتصر الأمر على طلب العلم بل تعاون مع شيخه على استقطاب مَن يستطيع من أصدقائه القدامى واحداً تلو الآخر إلى المسجد لتبدأ رحلة علاج جسدية وروحية. وعندما توفي الشيخ عبد الرحمن تابع وليد المسيرة.

تقدّم الإمام وليد – أبو عبد الرحمن- الصفوف الأمامية وصوته يسبقه: ((سوّوا صفوفكم فإنّ تسوية الصف من تمام الصلاة… الله أكبر)).

تهللت الأسارير عندما دخل الإمام أبو عبد الرحمن منزل العائلة القريب من المسجد حيث اجتمع أفرادها صغيرهم وكبيرهم استعداداً للذهاب إلى صلاة العيد… قبلة عميقة طبعها على جبين أخته بينما تكبيرات العيد تصدح في كل المساجد:

الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله وبحمده بُكرة وأصيلا….